کتاب الطلاق: [رسالةٌ في الطلاق] (4)

ففيه: اولا: انّ ما ذكر ليس باولي من ان يقال: انّ النكاح انّما وضع لاجل ان تستحق الزوجة التّمتع من الزوج لحفظ فرجها من الزنا، علي وجه مخصوص، بعوض معلوم. فيكون كبيع ساير الاملاك، فيكون هي السابقة ‌لبضعها المستحقة في عوضها الزوجَ المعلوم[1].

سلّمنا؛ لكن نقول: وضعه لاجل حصول الامرين معاً. و اختصاص تولية الابقاء‌ و الازالة بالزوج، لا ينافي استقلال كل منهما في اصل المعاملة و المعاوضة.

 

و  قوله:‌ و اما استحقاق الزوجة…. الي آخره، ان اراد اصل الاستحقاق و حصوله اولاً، ففيه منع واضح. اذ هو امر اصلي مقصود بالذات في عقد النكاح، الذي هو بينهما علي السّواء. بل الاصل فيها هو المرئة، لكونها موجبة و هو قابل، و الايجاب مقدم علي القبول طبعاً‌ و وضعاً. و ان اراد بقائه فهو كذلك. و ظن بقاء‌ استحقاق الزوج لحقوقه ايضا مشروط ببقاء‌ ذلك التملك. غاية‌ الامر انّ ملاك الابقاء و الازالة انّما هو الزوج، و ولايتهما بيده. و لكن ذلك لا ينافي استقلال الزوجة، و لا يستلزم كونَ حقها[2] تبعيّاً.

 

قوله: كما انّ استحقاق العبد و الدابّة…. الي آخره، فيه: اولاً: انّه قياس مع الفارق. اذ ليس بيد العبد و الدابّة شيئ من الامر، و امر المبايعة بيد البايع و المشتري. بخلاف الزوجة. و هذا ظاهر. و ثانياً: نمنع انه لا يجوز للعبد مزاحمة المولي اذا عرف كذبه لاجل [ما] اخّره من النّفقة[3].

قوله: و لذلك كان امره بيد… الخ، اقول:‌ نعم، ولكن امره بيده في اصل الطلاق،‌ لا في الاقرار به. فانّه اول الكلام.

 

قوله: علي انّ حقها من الاستمتاع قد سقط…. الخ، فيه: انّ عدم جواز مطالبة الزوج حق استمتاعه من الزوجة، لا ينافي جواز مطالبة الزوجة حق استمتاعها من الزوج. و يظهر الثمرة فيما لو لم يمكّن الزوجة‌ من الاستمتاع من زوجها جبراً و كرهاً[4].

 

قوله: مع انّه مشروط هنا بالتمكين الذي لا اثر له… [الخ، اقول:] قد عرفت ان عدم الاثر ممنوع. اذ عدم تمكن الزوج لا ينافي تمكين المرئة‌. و انّما حصل عدم التمكن من فعل الزوج و لا تقصير للزوجة في ذلك. و ذلك كما تمكّن الزوجة ‌من الاستمتاع و لم يقدر الزوج عليه، لعدم الرغبة. او العجز، او مانع اخر. فانّ ذلك يكفي في استحقاق النّفقة. كما لا يخفي.

 

الثالث: بعض الاخبار المشتملة علي انه اذا ترك الميّت عبداً و اَقرّ بعض ورثته بانّه اعتقه في حيوته، نفذ اقراره من نصيبه، و استسعي العبد فيما كان لغيره من الورثة؛ مثل ما رواه الصدوق في الفقيه عن يونس بن عبدالرّحمن، عن منصور بن حازم، عن ابي عبدالله(ع) فِي رَجُلٍ مَاتَ وَ تَرَكَ عَبْداً فَشَهِدَ بَعْضُ وُلْدِهِ أَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَهُ. فقال(ع): يَجُوزُ عَلَيْهِ شَهَادَتُهُ وَ لَا يُغْرَمُ وَ يُسْتَسْعَى الْغُلَامُ فِيمَا كَانَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْوَرَثَة[5]. و ما رواه الشيخ في التهذيب؛ عن محمد بن علي بن محبوب، عن علي بن السندي، عن حماد، عن حريز، عن محمد بن مسلم، عن احدهما عليهما السلام: قال: سئلته[6] عَنْ رَجُلٍ تَرَكَ مَمْلُوكاً بَيْنَ نَفَرٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمْ أَنَّ الْمَيِّتَ أَعْتَقَهُ. فقالَ إِنْ كَانَ الشَّاهِدُ مَرْضِيّاً لَمْ يَضْمَنْ وَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ فِي نَصِيبِهِ وَ اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ فِيمَا كَانَ لِلْوَرَثَة.[7]

 

و اُخري:‌ عنه عن بنان، عن موسي بن القسم، عن علي بن الحكم، عن منصور؛ قال: سَأَلت اباعبدالله(ع) عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَ تَرَكَ غُلَاماً مَمْلُوكاً، فَشَهِدَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ أَنَّهُ حُرٌّ. قال: إِن كَانَ الشَّاهِدُ مَرْضِيّاً، جَازَتْ شَهَادَتُهُ. وَ يُسْتُسْعِيَ فِيمَا كَانَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْوَرَثَة.[8]

فحكم في هذه الاخبار بسماع اقراره في نصيبه، و حكم علي العبد بسقوط حقه عنه بذلك، و استسعائه في سهام باقي الورثة و حكم عليهم مع انكارهم بقبول قيمة سهامهم. فالحكم مبنيّ علي نفس الاقرار و علي كونه مستقلاً، لكونه مالكاً له في نصيبه ظاهراً، و ليس ذلك مخصوصاً بالعتق. فيكون في الطلاق و نظائره ايضاً كذلك.

 

و حاصل الجواب في تلك الاخبار: (علي فرض تسليمها علي الاطلاق) انّ‌ الاقرار بالعتق يوجب فرض تحققه بالنّسبة اليه في الواقع. فيجري عليه كل حكم يتعلّق به بالنسبة اليه. فيسقط تسلّطه عليه في بيعه و اجارته و اِخدامه و نحو ذلك. و اما انفاق العبد، فلمّا كان العتق انفع شيئ للعبد غالباً، فيقدم، و ان كان يلزمه سقوط الانفاق. اذ من النادر ان يكون النفقة اهمّ في نظر العبد. و الاقرار لشخص و علي شخص، قد يختلفان في المقامات بحسب الاحوال. ففيما اجتمع الامران ضرورةً لفكّ الرقبة‌ و سقوط الانفاق، فيعتبر اهمّهما[9] و انفعهما له غالبا.

 

و اما استلزام ذلك الاقرار سراية العتق (و هو ضرر علي الشركاء) فكانت ينبغي ان لا يكون الاقرار فيه مسموعا، لكن جرت تلك الاخبار علي الترتيب عليه، نظراً‌ الي التغليب المتحقق في العتق دون غيره. اذ مبناها[10] تغليب جانب الحرّية، كما يستفاد من تتبع الاخبار و فتاوي الاصحاب. و لا يستلزم اجراءَ الحكم في الطلاق و غيره. و كون ذلك مقتضي نفس الاقرار مطلقا، مجرّد دعوي لا برهان عليها.

 

و بذلك يتقوّي حكم عدم ضرر سقوط الانفاق في العبد ايضاً. كما مرّ.

 

هذا، مع انّي لا يحضرني الان، قائل بمضمونها صريحاً. غاية الامر اقتضاء الاقرار سقوط تسلطه عليه. و كذلك لم يقل احد باشتراط كون المقرّ مرضيّاً. فلا يلائم قواعدهم في الاقوال، و لا عمومات ساير الاخبار.

 

الرابع: القاعدة المسلّمة عندهم باختلاف عباراتهم انّ «كل من ملك شيئا، ملك الاقرار به» و «من يملك التصرف في شيئ، ينفذ اقراره فيه»، و نحو ذلك. و المراد بها ان من ملك شيئاً او تصرف في شيئ علي سبيل الاستقلال (علي ظاهر الحال)، كان اقراره بذلك التصرف او بذلك الشيئ، نافذاً ماضياً، كنفس التصرف، ما لم يعلم كذبه. و كذلك اذا كان علي سبيل الولاية، عندالاكثر. و لا ريب ان الشارع جعل علقة ‌النكاح (المستلزمة لثبوت حقوق عليه و حقوق عليها بقاءً و ازالةً) علي يد الزوج، فهو مالك لامرها. فيكون اقراره بازالتها بالطلاق، ماضياً. كما يمضي نفس الطلاق لو اوقعه.

 

اقول: كلامهم هذا، في مثل الوكيل، و العبد الماذون في التجارة، و المكاتب، و نحو ذلك. و مرادهم انّ اقرار العاقل لمّا كان لا يُسمع الاّ علي نفسه، و في هذه المواضع شائبة كونه اقراراً‌ علي الغير (اذ اقرار العبد ببيع سلعة مولاه[11]، او قبْضِ ثمنه، و ان كان اقراراً علي نفسه بالنّسبة الي المشتري لكنّه متضمّن للاقرار علي المولي ايضا) فدفعوا ذلك بانّه لمّا كان تصرفه ماضياً في مال مولاه و اتلافه و اخراجه من ملكه، فكان اقراره علي ذلك ماضياً. و ليس ذلك اقراراً بما لا يمكن الزامه علي نفسه. ضرورة ان تنفيذ الاقرار بالشيئ، فرع جواز التصرف في ذلك الشيئ. كما صرّح به الشهيد في شرح الارشاد. و كذلك الكلام في الوكيل و غيره.

 

و بالجملة: يد هؤلاء، يد المنوب عنه. و ذمتهم ذمته. فيكفي اقرار العبد بالبيع و القبض للمشتري مثلاً. و امّا دعوي المولي و الموكّل علي العبد و الوكيل، و ان كانت مسموعة اذا انكر البيع و القبض. لكنّها دعوي يتعلّق بالامين. و الظاهر انه منكر، لاجل ايتمانه و تفويض الامر اليه. فالمولي و الموكّل يدّعيان كذبهما، فعليهما البيّنة علي الكذب، و عليهما اليمين علي نفيه.

 

و الحاصل: انّ تقديم قول العبد و الوكيل (اذا نازعهما المولي و الموكل) ليس من جهة هذه القاعدة. اذ مقتضي القاعدة‌ النفوذ و الامضاء بدون توقف علي شيئ. كما هو مقتضي الاقرار. لانّ الاقرار مستقل باثبات الحكم في مادّة المقرّ به[12]، علي نفس المقرّ. غاية الامر؛ دلالتها علي تصديقه و قبول قوله بالنّسبة الي الغير ايضا اذا جهل الحال و لم يكذبه احد. كما صرّح المتمسك بها هنا ايضاً. حيث قال «انّ اطلاقهم في هذه القاعدة و في تنصيصهم علي تقديم قول الزوج في الطلاق بدون ذكر اليمين انّما هو في صورة الجهل بالحال». و مع ذلك تمسّك بها[13] في صورة التكذيب و الانكار ايضا. و هو عجيب.

 

سيمّا و يظهر من ملاحظة كلماتهم، خلافهم. لانّه ذكروا هذه الاطلاقات في مقام الدعوي ايضا.

 

فنقول: التعليل المذكور في كلامهم انّما هو لاجل اثبات الحكم للمقرّله. قال في الشرايع في اقرار العبد «و لو كان مأذونا في التجارة، فاقرّ بما يتعلق بها قُبل. لانّه يملك التصرف فيملك الاقرار، و يؤخذ بما اقرّ به مما في يده»[14]. و في المسالك: «انّما قُبل اقرار [الماذون في التجارة] لانّ تصرفه نافذ فيما اذن له فيه منها، فينفذ اقراره بما يتعلق بها، لانّ من[15] ملك شيئاً ملك الاقرار به»[16]. و مثله عبارات غيرهما[17] من الاصحاب. فلاحظ الدروس و الارشاد و غيرهما.[18]

 

و اما مثل عبارة الشيخ في المبسوط، حيث قال في حكم اختلاف الوكيل و الموكل في فعل ما وكّل فيه كالبيع و قبض الثمن انّه: «قيل فيه قولان: احدهما انّ القول قول الوكيل. لانّه يملك هذا العقد و القبض. فاذا ادعي ذلك كان القول قوله. كما اذا ادعي الاب تزويج ابنته البكر، كان القول قوله فيه، سواء ادعي تزويجها قبل بلوغها او بعد[ه]. و الثاني ان القول قول الموكل. لان الوكيل اذا ادعي فيه قبض الثمن، و انكره الموكل، فقد اقرّ الوكيل علي موكله بحق لاجنبيّ[19]. فكان القول قول الموكل في ذلك. كما اذا ادعي علي الموكل انّه قبض الثمن [من المشتري بنفسه] فانه لا يقبل قول الوكيل علي موكله بلا خلاف. و الصحيح الاول.» انتهي[20].

 

فهي و ان كانت اوّلها موهمة خلاف[21] ما ذكرنا من كون التعليل بهذه القاعدة، لاجل اثبات الحكم للمقرّله. و لكن اخر كلامه في تقرير القول الثاني يوضح انّ مراده ما ذكرنا، و انّ مراده من التعليل بقوله «لانّه يملك هذا العقد» بيان صحة اقراره في العقد و القبض، و نفوذه للمقرّله، و صيرورة فعله هذا، فعل الامين. فاذا تعقبه دعوي الموكل بنفي العقد و القبض، فيقدم قول الوكيل لانّه امين. او مراده بيان الامانة اوّلاً بتقريب انّ الامر مفوض اليه و هو مالك للتصرف من هذه الجهة، فيقدم قوله مع يمينه. و وجه ايضاح اخر كلامه لما ذكرنا، انّه تمسك للقول الثاني بان اقراره بالبيع و القبض، اقرار علي الموكل فلا يسمع اصلاً لانه اقرار علي الغير، فلم يثبت الحق للمشتري المقرّله اصلا، و لم يتحقق البيع بالنسبة اليه ايضا. و اما ما ذكر للقول الاول؛ فالمراد به انّه يتحقق بالنسبة ‌الي المشتري، لانه يملك هذا العقد و القبض، فينفذ اقراره فيه علي نفسه بالنسبة الي المشتري. و اما دعوي الموكل معه فهو تكذيب له و لا يقدم قوله. بل يقدم قول الوكيل مع اليمين، لانه امين.

 

 

و بالجملة: نفوذ الحكم من جهة الاقرار، غير تقديم القول من جهة كون القائل بمعني المنكر و متمسّكا بما هو الظاهر الجلي، و مخالفته متعاطياً لاثبات امر خفي. و مقتضي القاعدة (علي ما يفهم من كلماتهم) هو الاول. و لا ينفع فيما نحن فيه في شيئ. [و] لا يحتاج تقديم قول المدعي الي شيئ اخر.

 

و قد ينضمّ الي الاستدلال بهذه القاعدة، الاستدلال بقوله(ع): «اقرار العقلاء علي انفسهم جايز» بالتقريب الذي مرّ و هو انّه يُسمع فيما كان الاقرار علي غيره بتبعية سماع ما كان علي نفسه اذا كان الاقرار مركباً من الامرين. كما فيما نحن فيه اي الطلاق. و انت خبير بانّ مقتضي الحديث، النفوذ و السماع من دون حاجة الي شيئ. فالجمع بين الاستدلالين و القول مع ذلك باحتياج تقديم قول مدعي الطلاق[22] الي اليمين، مما يفضي منه العجب.

 

 

اذا عرفت هذا فنقول فيما نحن فيه: هذا الحديث و تلك القاعدة، تفيضان (نسخة البدل: تقضيان)[23] نفوذ اقرار الزوج بالطلاق، في حق نفسه. اذ هو المتبادر من الاقرار و ادلّته. و بالنسبة الي غيره اِمّا مدع فيحتاج الي البيّنة، و اِمّا منكر فيحتاج الي اليمين.

 

و اما ما يُدّعي انّه امين من الله علي ذلك لانه فوّض اليه[24] امر الطلاق، و ليس ذلك باقلّ من تامين العباد بعضهم بعضا، فلابدّ من تقديم قوله. فهو كلام ظاهريّ، خطابيّ. اذ المعيار في تقديم قول الامين، هو جعله منكراً متمسكا بامر جليّ راجح. و ذلك لانّ العقل و العادة يحكم بانّ العاقل لايفوّض امره الا الي من يطمئن به، و يسكن نفسه اليه، و يصدّقه في قوله و فعله. فاذا ادّعي شيئاً فالراجح وقوعه و صدقه. و للزوم الحرج و العسر لو لزم منه في افعاله البيّنة، لتعذّره، او تعسّره عليه غالبا.

و اما فيما جعل الله الامر الي عبده من الاحكام، مثل الطلاق و الظهار و الايلاء، و نحو ذلك، فليس منوطاً بالامانة و الصدق. اذ الفاسق و العادل سواء في هذه الامور. كما هو واضح، بيّن. فتقديم قول امناء العباد، لايستلزم تقديم المستقلّين[25] في الامر من جانب الله تعالي.

فنقول حينئذ: اِما ان يكونَ النزاع في بقاء سلطنة الزوج و عدمه، (مع كون باقي احكام الطلاق و لوازمه مسكوتا عنه) و يكونَ المفارقة[26] موافقة لغرض الزوجة، و الاستمرار علي النكاح موافقا لغرض الزوج، فاذا اخبر الزوج بالطلاق، فهذا اقرار و مسموع و نافذ، و لا يحتاج الي شيئ اخر. و اذا انعكس الامر و كان الزوجة مدعيّة للاستمرار منكرةً للطلاق، فاخبار الزوج بالطلاق، دعوي. فيحتاج الي الاثبات. غاية الامر جعل الزوجة مدعية [ا]لكذبَ به، و الزوج منكراً لانه مالك الامر و الامر بيده. فلا يرفع النزاع و لا يثبت الحق الاّ باليمين، ايضا. و ليس هذا من باب الاقرار. فاليمين ايضا لاثبات الدعوي، لا انّها خارجة‌ من اركان المرافعة‌.

 

و [امّا] اذا كان المقام خالياً عن الامرين[27] و اخبر بالطلاق و صدّقته الزوجة او سكتت و كانت جاهلة‌ بالحال طالبة لنفس الامر، فلابد ان تُصدّقه. و يُعمل علي قوله، حملاً‌ لفعل المسلم [و قوله] علي الصّحة.

 

 

ثمّ: انّ الظاهر من القاعده المذكورة (و المصرّح بها في كلام كثير من الاصحاب) انّ سماع اقرار من ملك شيئاً، سماعه في زمان تملّكه. فاقرار الوكيل بعد العزل و كذلك العبد بعد المنع، لا فائدة فيه و ان اقرّ بفعله في زمان النصب و الاذن. يعني لا ينفذ و لا يمضي بعنوان الاقرار، لا انّه لا يسمع مطلقا، فانه في صورة اختلاف الزمان، يصير من باب الدعوي المحتاجة الي المُثبت و المبطل. و وجههما ظاهر ممّا تقدم.

 

و من جميع ذلك يظهر الكلام فيما لو تُمسّك في المقام بعبارتهم الاخري لهم في هذا الباب؛ و هو «انّ كل من قدر علي انشاء‌ شيئ، قدر علي الاقرار به». و اتحاد الزمان فيه ايضا معتبر كسابقه، و مصرَّح به في كلامهم. و مئالها يرجع الي العبارة الاولي و هذه العبارة المذكورة في كلامهم في مقامين، يعني في نفوذ الاقرار و امضائه، و في قبول قول المقرّ و تقديمه علي قول منكره. و نذكر في كل من المقامين بعض العبارات:

 

المقام الاول: ففي القواعد بعد تقسيم المقرّ الي المطلق و المحجور، قال «فالمطلق ينفذ اقراره بكل ما يقدر علي انشائه»[28]. و في التحرير «و كلّ من لا يتمكّن من الانشاء لا ينفذ اقراره،‌ فلو اقرّ المريض بانه وهب حال الصحّة، لم ينفذ من الاصل»[29]. و مفهومه مطابق للقاعدة[30]. الي غير ذلك من العبارات التي لا يحتاج الي الذّكر.

 

المقام الثاني: فقال الشهيد في اللّمعة: و لو اختلفا في تصرف الوكيل، حلف. و قيل [يحلف] الموكل. و كذا الخلاف لو تنازعا في قدر الثمن الذي اُشتريت به السّلعة[31]. و قال في الروضة في شرحها «حلف الوكيل لانه امين و قادر علي الانشاء، و التصرف اليه، و مرجع الاختلاف الي فعله، و هو اعلم به. و قيل يحلف الموكل، لاصالة عدم التصرف و بقاء الملك علي مالكه. و الاقوي الاول»[32]. و قال العلاّمة في القواعد «الاقرب تقديم قول الوكيل، لانه امين و قادر علي الانشاء، و التصرف اليه»[33]. الي غير ذلك من العبارات التي لاحاجة الي ذكرها.

 

و المراد بالقدرة علي الانشاء، القدرة‌ في آن الاقرار، لا قبله. كما هو المصرّح به في كلماتهم. و وجه نفوذ الاقرار، ظاهرٌ، لعموم «اقرار العقلاء..» و كذلك وجه تقديم قوله، لانه موافق للظاهر. و كيف كان؛ فالمراد بنفوذ الاقرار هو نفوذه علي نفسه، لا مطلقا. كما يدل عليه عبارة الشهيد في القواعد، قال «لو قال لزوجاته: ايّتكنّ حاضت، فصواحباتها[34] علّي كظهر اميّ. فقالت احديهنّ: حضت. و صدّقها. وقع الظّهار بالنسبة اليه. و يشكل بان قولها لا يقبل في حقهنّ، و احلافها غير ممكن، و قطع الزوج بذلك نادر. و لهذا لو صرّح بالمستند و قال لا اعلم حيضها الاّ بقولها، عدّ مخطئاً الاّ‌ مع قرينة الحال المفيدة للعلم. و لعلّ الاقرب انّه اِن اخبر و يعلم صدقها بالقرائن، وقع الظّهار. و ان اطلق و امكن ذلك ايضا، لاصالة الصّدق في اخبار المسلم، و لانه قادر علي انشاء الظهار الان، فيقبل اقراره» انتهي[35].

 

فانّ قوله «وقع الظهار بالنسبة اليه»، يعني ان الصواحبات باقيات علي الحلّ الاّ ان يصدّقها. و الاشكال الذي ذكره، انّما هو في كفاية ذلك بالنّسبة اليه ايضاً. و توجيهه اخيراً‌ للوقوع بالنسبة اليه، يُثبت امرين: احدهما وقوعه بالنسبة اليه. و ثانيهما ان القول قوله لو ادعت الصواحبات عليه عدم حصول العلم، و كذّبنه في ذلك. فيثبت بالنسبة الي الصواحبات مع يمينه و ان لم يصرّح به.

و الحاصل: ان من يقدر[36] علي انشاء عقدٍ او ايقاع في الحال، اذا اقرّبه، فالظاهر معه[37]، لافائدة في انكاره غالباً. اذ هو[38] قادر في تلك الحال علي الانشاء بالفرض. فيجدّد الانشاء و يبطل دعوي الخصم. فمن يدعي عليه الخلاف فهو مخبر عن شيئ مرجوح، خفّي، و هو يدعي شيئاً ظاهراً جلياً‌ راجحاً، فيقدم قوله. و ان احتاج الي ضم اليمين في بعض الاحوال. كما في حكاية الطلاق اذا اقرّ بايقاعه بزمان متقدم استحقّت فيه النفقة و ساير الحقوق، فانه يحتاج الي اثبات ذلك باليمين. و اما بالنّسبة الي نفس المقرّ، فلا حاجة الي شيئ اخر. و توهم انه يُسمع فيه بالنسبة الي الغير ايضاً و يُحكم بنفوذه مطلقا، فاسد جزما، بل خلاف اجماعهم في غير صورة السكوت و جهالة‌الحال. بل و تقديم قول القادر علي الانشاء و المالك للتصرف مع [عدم] اليمين خلافيّ. كما عرفت في بعض العبارات و ستعرف. و ما يتوهّم من بعض العبارات انّه مما لا خلاف فيه، فالظاهر عدمه. كما سنشير اليه.

 

فنقول: اذا اقرّ الزوج بالطلاق، فمن يقول بانّ قوله مسموع، ان اراد مع تصديق الزوجة او سكوتها لجهالتها، فهو كذلك، و لا كلام فيه. كما عرفت.

 

و ان اراد انّه مع انكار الزوجة ايضا كذلك، فنقول: ان اراد انّ ذلك من جهة انه اقرار و اقرار العقلاء‌ نافذ، فنقول ينفذ فيما كان علي نفسه. و ان كان الاِخبار مركبا عنه و عن الاقرار علي الغير، فلا ريب[39] انه بالنسبة الي الغير، دعوي لا اقرار.

 

و ان اراد ان فتوي الاصحاب يقتضي تقديم قول صاحب هذا القول اذا ملكه و قدر علي انشائه و لو كان مشتملاً‌ علي الاقرار في حق الغير، قلنا: لم يقتض فتاويهم تقديمه مطلقاً‌، بل مرادهم اِما في صورة الجهل، او انه يسمع مع اليمين لكونه بمنزلة المنكر.

 

و ان اراد انّ عليه اليمين و لكن اليمين ليس بمثبِت، بل المثبت انّما هو قول المسلم، و اليمين انّما هو لرفع مظنّة الكذب. فقد عرفت بطلانه، لانّ اليمين لم يعهد في باب القضاء‌ الاّ لاجل الاثبات، حتي في اليمين الاستظهاري.

 

فلم يبق هنا شيئ يمكن ان ينازع فيه الا ان الزوج[40] هل هو مدع يجب عليه البينة، و اليمين عليه ليس الا في صورة الردّ[41]-؟ او منكر و يتوجّه عليه اليمين اولاً بعد عجز الزوجة عن اثبات الكذب-؟‌ و هذه مسئلة وقع الخلاف فيها و في نظرائها. و ليس ما يستوحش فيها من كونه مدعياً، عليه البينة.

و ما يقال: انّ مقتضي قولهم «انّ من قدر علي انشاء شيئ، قدر علي الاقرار به» انّ الاقرار بالشيئ بمنزلة انشائه؛ فالاقرار بالبيع بمنزلة انشاء‌ الايجاب، و بالشراء بمنزلة القبول فيه. و اقرار وليّ الصّغيرين معا، بمنزلة انشائه لذلك. و هكذا…، فالاقرار بالطلاق بمنزلة الانشاء به، فيقبل و ينفذ مطلقا بالنسبة اليه و الي غيره.

فيه نظر واضح؛ اذ قد يكون الاقرار بالانشاء مشتملاً علي الاقرار و الدعوي معاً. فالمراد بالقدرة علي الاقرار بالشيئ،‌ او جريان حكم الاقرار، انّما هو [اذا] كان علي نفسه. فاما ما كان علي الغير فهو دعوي. و كيف يكون الاقرار [مركباً] من شيئين يمكن التفكيك بينهما، بمنزلة الانشاء الذي لايمكن التفكيك.

فمن اقرّ ببيع ماله من زيد بثمن معين، كيف يوجب التزام المشتري لوفاء الثمن اذا انكر الشراء. و لكنّه يُلزم به اذا تحقق الانشاء. و من ذلك ظهر ما في قوله «و الاقرار بالبيع بمنزلة انشاء الايجاب»؛ لان البيع ليس نفس الايجاب فقط، بل هو مجموع الايجاب و القبول. فاذا امكن تفكيك الايجاب (الذي هو جزء مفهوم البيع) عن القبول، فيمكن تفكيك اسقاط حقوق الزوجة في الطلاق ايضا. و ايضاً لازم هذا الكلام، نفوذ الطلاق من دون حاجة الي يمين او بيّنة. و لايقول به القائل.

 

ثمّ: اذ قد عرفت ان معني قولهم[42] «من ملك شيئاً ملك الاقرار به- و من قدر علي انشاء شيئ في الان، قدر علي الاقرار به»، هو انّ من يتمكّن من جعل شيئ في ذمّته، ينفذ اقراره به. [لا] اذا كان [لا] يتمكن منه[43]. ظهرلك ان هذا لا يجري (في صورة الدعوي و حصول من ينكر ذلك) بالنسبة الي المنكر. فاذا كان[44] هناك منكر، فعليه البينة. فيبطل القول بتقديم قول مدعي الطلاق و نظرائه تمسّكاً‌ بانّ الزوج يملك انشاء الطلاق حين اقراره به و ادعائه، فينفذ اقراره علي الزوجة بدون البيّنة و ان كانت الزوجة منكرة. و كذلك في نظرائه. لانّ ذلك ليس باقرار، بل هو دعوي بالنسبة الي الزوجة و ان كان اقراراً بالنسبة اليه. و دعوي فعل ما يملكه، ليس مما يجب سماعه بلا بيّنة. كما لا يسمع دعوي الاقباض الذي يحصل بالتخلية و لا يُصدّق صاحبها [الاّ] بالبيّنة مع انّه قادر عليه و مستقل به. و كذلك مدعي العمل في الاجارة و الجعالة و ما يشبههما من المواضع الكثيرة التي لا تحتاج الي الذكر.



[1] و في النسخة: الزوجة المعلوم.

[2] و في النسخة: حقهما.

[3] و في النسخة: لاجل اخره و من النّفقة.

[4] كذا في النسخة. و لعلّ الصحيح: لو تمكّن الزوجة من الاستمتاع من زوجها جبراً و كرهاً.

فانّ الزوجة حينئذ تستمتع من الزوج، و لاشيئ عليها لانّ الاستمتاع حقها.

[5] الفقيه: ج4 ص230 ح5544- الوسائل، ج27 ص411 ح34082.

[6] و في النسخة: سئلت ابا جعفر(ع).

[7] التهذيب: ج8 ص234 ح77. كتاب العتق، ب1.

[8] التهذيب: ج8 ص246 ح122 كتاب العتق، ب1.

[9] و في النسخة: اهميتهما.

[10] اي: مبنا الاخبار.- و في النسخة: مبناه.

[11] و في النسخة: سلفه مولاه.

[12] و في النسخة: المقرّ له.

[13] و في النسخة: بهما.- و الضمير راجع الي «القاعدة».

[14] الشرايع، ج3 ص119 طبع دارالتفسير- كتاب الاقرار، النظر الثاني في المقرّ.

[15] و في النسخة: لان كل من.

[16] المسالك، كتاب الاقرار- ج2 ص140، ط دارالهدي.

[17] و في النسخة: ها.

[18] و في النسخة: ها.

[19] و في النسخة: الاجنبي. و هكذا في المبسوط، ج2 (كتاب الوكالة) ص373، ط المكتبة المرتضوية.

[20] المبسوط، ج2 (كتاب الوكالة) ص373، ط المكتبة المرتضوية.

[21] و في النسخة: الخلاف.

[22] و في النسخة: المدعي الطلاق.

[23] و في النسخة: بدل كلتا الكلمتين كلمة واحدة- تقيضيان.

[24] و في النسخة: فرض اليه.

[25] و في النسخة: بعنوان نسخة البدل: المستضلّين.

[26] و في النسخة: فيكون المفارقة.

[27] اي: اذا لم يكن استمرار النكاح موافقا لغرض الزوج، و لم يكن ايضاً موافقاً لغرض الزوجة.

[28] القواعد، كتاب الاقرار، قال في اول الكتاب: المطلب الاول: الصيغة…. الثاني المقرّ…- و في «ايضاح الفوائد في شرح اشكالات القواعد» ط كوشانپور: ج2 ص426.

[29] التحرير، ج2 ص114.

[30] اي:‌ مفهوم هذا الكلام مطابق لقاعدة «انّ كل من قدر علي انشاء شيئ،‌ قدر علي الاقرار به»، و ان لم ينطبق منطوقه. لان مفهومه: «من تمكّن من الانشاء نفذ اقراره».

[31] الّلمعة، آخر مسئلة من كتاب الوكالة.

[32] الروضة، كتاب الوكالة، آخر الكتاب.

[33] القواعد، كتاب الوكالة، المطبوع مع «ايضاح الفوائد»، ج2 ص360 ط كوشانپور.

[34] و في النسخة: و ضو حباتها.

[35] القواعد و الفوائد، ج1 ص372، قاعدة 145.

[36] و في النسخة: من لم يقدر.

[37] اي: فالظاهر مع كونه قادراً للانشاء.- اي: الذي يظهر لي مع كونه قادراً للانشاء، انّه لا فائدة..

[38] و في النسخة: اذا هو.

[39] و في النسخة: و لا ريب.

[40] و في النسخة: الاّ انّ حه في الزوج.

[41] و في النسخة: في صورة المراد.

[42] و في النسخة: ان من معني قولهم.

[43] و في النسخة: ينفد اقراره به اذا كان الاقرار في ان التمكن منه.

[44] لهذين الكلمتين خفاء في النسخة، مانع عن الجزم.