کتاب الطلاق: [رسالةٌ في الطلاق] (2)

قلت: هذا التكليف انّما نشأ من اليد، فانّ عليها ما اخذت حتي تؤدّي و ان لم يكن عالماً بالغصب، فيجب ردها علي زيد ان صدّقه، و الاّ فهو امانة شرعيّة يجب العمل بمقتضاها. و لذلك لا نقول بالوجوب لو لم يقع في يده. و مرادنا من المفهوم انّ ضرر الاقرار من حيث هو، لا يتوجه الي الغير، لا انه لا يترتب عليه حكم علي الغير مطلقا. و الاّ فالغالب ان الاقرار علي النفس يستلزم نفع الغير. فليس المراد انحصار مطلق ما يترتب علي الاقرار في النفس. و هذا واضح.

 

و امّا الوارث فلم يثبت له حق قبل موت المورّث، و انّما ينتقل اليه ما بقي في ملك المورث حين الموت. مع انّ نفوذه في حقه لا يجامع عدم نفوذه في حق الغير؛ و الاول مقدم بالفرض فليعمل علي مقتضاه ، و بعد العمل عليه لا تبقي للعمل علي الاخير صورة امكانٍ. و ليس ذلك من باب الاقرار بالمال المشترك بينه و بين غيره، لثالث. كما لا يخفي. و الكلام في وجوب الرّد كما مرّ.

 

و امّا سقوط [حق] من له عليه[1]حق ماليّ: فسقوطه بمجرد ذلك ممنوع. فغاية الامر انّ الغرماء و ذوي الحقوق[2] لو ادّعوا عليه الكذب، يقدّم قوله. و ذلك ليس معني سقوط حقهم. اذ معني سقوط الحق به[3]، استقلاله[4] فيه[5]. و امّا في صورة الدعوي فلا يسقط الاّ باليمين (كما سيجيء الكلام في امثاله). و القول بانّ المراد انّه يسقط به الحق في الجملة و لو كان جزء السّبب، خروج عن المبحث. لانّ[6] الظاهر من الحكم بالسقوط بالاقرار، السببية التامّة.

و يظهر ممّا ذكرنا، الكلام في العبد، حرفاً بحرف؛ و سقوط[7] نفقة‌ العبد انّما هو لاجل ادعائه العتق المستلزم لاقراره علي نفسه بالنّسبة الي النفقة. و كذلك الكلام في النكاح؛ اذ قد ينجرّ الي الدعوي، و قبول القول مع اليمين ليس معني نفوذ الاقرار، كما لا يخفي و قد اشرنا اليه آنفاً. و يظهر بالتّامل فيما ذكرنا، الجواب عن باقي الامثلة.

و بالجملة:‌ مرادنا من دعوي الحصر، انّ اقرار العقلاء نافذ اذا كان علي انفسهم، لا اذا كان علي غيرهم. و ليس المراد انّ اقرار العقلاء علي انفسهم لا يفيد الا ذلك، و لا يثبت به شيئ آخر حتي ثبوت ذلك الحق بعينه للغير و ما يترتّب عليه و نحوذلك ايضاً. و هو واضح.

و ربّما يُحمل الخبر علي انّ‌ المراد منه انّ اقرارهم علي انفسهم فيما يتعلق بهم نافذ مطلقا؛ فبالنسبة اليهم اصالةً و بالنّسبة الي غيرهم فيما يترتّب عليه تبعاً. و علي هذا بناء الاقارير. فالتّصرف المقرّبه اذا كان ممّا يشارك المقرّ، فيه غيره (كعقد النكاح مثلاً) لم ينفذ الا في حقّه خاصة. و ان كان مما يختصّ به، نفذ بالنسبة اليه اولاً‌ و بالذات، و بالنّسبة الي غيره ثانياً و بالتّبع. و علي هذا فحكم التصرّف بقسميه حكم العين التي عليها يد المقرّ خاصة ‌او مع غيره.

و لمّا كان كل من بقاء النكاح و ازالته بالطلاق حقاً‌ مختصاً بالزوج [و] له الولاية عليه لا غير، فاقراره حينئذ بالطلاق اقرار علي حق نفسه و اخراج لامر[ها][8] من يده. فاذا سُمع كان ثابتاً‌ مطلقا و لا معني للتفرقة المذكورة اصلا.

اقول:[9] قد يكون الطلاق موافقاً لغرض الزّوج، فلا يكون اقراراً علي النفس. كما يكون اقراراً عليها لو تجدّد شوقه الي وصالها و ندم علي فراقها. و لا ريب انّ الطلاق مما يتعلّق به. فكيف يقال: معني قوله(ع) «اقرار العقلاء علي انفسهم جايز» انّ‌ اقرارهم علي انفسهم فيما يتعلّق بهم جايز مطلقا بالنّسبة اليهم اصالةً، و بالنسبة الي غيرهم تبعاً؟ و لا ريب ان الطلاق من حيث هو طلاق، ليس بمعني الاقرار علي النفس. و اِن جعل المراد منه هو الحيثية[10] التي هي اقرار علي النفس، فلا معني للتّعميم و القول بانّه مسموع بالنّسبة اليه بالاصالة و بالنسبة الي الغير بالتّبع.

فان قلت: مراده ان الاقرار بالطلاق، اقرار بما يتعلّق به و في يده؛ و معناه ازالة قيد النكاح و حق ملكية البضع. كما ان العتق متعلق بالمولي و في يده، و معناه ازالة حق الملك و فكّ رقبة العبد عن العبودية.

فاذا زال هذا القيد يزول لوازمه. و لا ينافي ذلك ترتب حق اخر (للزوجة و العبد) علي حق ملكية البضع و الرقبة ماداما ثابتين. و كما انّ‌ الزوجة كالبايعة بضعها بعوض الصداق (لا شيئ اخر من النفقة و غيرها و لا دخل لغير تمليك البضع في عوض الصداق في حقيقتها) فالطلاق المختصّ بالزوج هو قطع ذلك الملك. فلا يبقي شيئ اخر.

قلت: قد ظهر مما ذكرنا سابقاً، الجواب عن ذلك؛ و نقول: هنا ايضاً لا يخفي ما فيه من الخلط؛ فانّ كون معني الطلاق ازالة قيد النكاح و حق ملكية البضع، لا يستلزم كون الاقرار به معناه ذلك. و كذا الكلام في العتق.

قولك: و لا ينافي ذلك الخ..، فيه انّه اذا قبلتَ التّرتب مادام الحقان ثابتين، فما الذي رفع الحقين حتي لايرتب عليهما حق اخر. و المسلّم[11] رفعهما انّما هو اذا تحقق الطلاق و العتق في الخارج، و لا نسلّم رفعهما[12] بالاقرار. لانّ للزوجة و العبد انكار وقوع الطلاق و العتق. و الاقرار انّما يُسقط ما يختصّ بالمقرّ و يتضرّر به، لا ما هو حق لاخر[13] بالعقد الثابت من النكاح و شراء العبد.

و اما القول بعدم دخول شيئ اخر في حقيقة النكاح الا تمليك الزّوجة بضعها بعوض الصداق. فهو ممنوع اذ وُضع النكاح الدائم لحصول النسل و قطع الشهوة باستمتاع كل منهما من الاخر. فيستحق الزوجة مضافاً الي الصداق، التمتع من الزوج و لو كان محدوداً في المضاجعة و المواقعة. كما ان في جانب الزوج ايضاً محدود بغير حال الحيض و نحوها. و كذلك طلب النسل فلا يجوز العزل بدون اذنها. و قد عرفت منع انحصار مهيّة الطلاق في رفع السّلطنة ايضا.

و بالجملة: هذا الحمل مضطرب غاية الاضطراب، لاستلزامه «القاءَ ما ذكره الحكيم في اللفظ و تقديرَ ما لم يذكر»[14]. اذا المقصود (علي هذا) بيان انّ الاقرار بما يتعلّق بالمقرّ و يختصّ به كالطلاق، موجب لامضائه و مسموعيّته و ترتب احكامه عليه. و لا ريب ان الطلاق هو المهيّة التي من شانها منع الزوج عن التسلط علي الزوجة و اسقاط حقوق الزوجة عنه. فاذا سُمع ذلك  و اُمضي فلا فرق بين الامرين بان يكون احديهما بالاصالة و الاخر بالتبعيّة. بل هما مسموعان بالاصالة. و حينئذ فيكون قيد «علي انفسهم» لغواً.

و ان اريد ان سماع ذلك انّما هو من جهة حصول الاقرار علي النفس. ففيه: انّه اِمّا ان يكون سماعه من جهة انه نفس الاقرار علي النفس، فـ (مع انّه باطل لانّه مركب منه و من الاقرار علي الغير) انّ هذا التقدير من دون قرينة عليه، غير صحيح في كلام الحكيم.

و اِمّا ان يكون سماعه من جهة انّه مشمول علي الاقرار علي النفس، فِامّا ان يراد من الجهة الحيثيّة التقييدية، فكيف يقتضي سماعه من هذه الحيثية، سماعه من الجهة الاُخري و ان كان تبعياً ايضاً. اذ معناه حينئذ انّه يسمع من هذا الطلاق ما هو اقرار علي النفس بعينه و هو اسقاط التسلط عليها لا غير مثلاً. فيصيرالحديث حينئذ لنا لا علينا. و اِمّا ان يراد من الجهة الحيثية التّعليليّة، فهو يستلزم ان يُسمع كلّما وجد فيه هذه العلّة و ان كان من حيث احد جزئيه، فالنكاح[15] ايضاً مشتمل علي الاقرار علي النفس بالتزام حقوق الزوجة. و الاّ لم يكن العلّة علةً، بل هي مع كونها في مادة مختصّ بالمقرّ،‌ علة. و هذا ينافي حقيقية العلية. كما لا يخفي.

و ان قلت:‌ لا يستلزم لغواً و لا تقديراً، فان المقيد و هو الاقرار المقيد بـ «علي انفسهم»، باق علي حاله، و الحكم المطلق بالجواز[16] باق علي اطلاقه. يعني يجوز علي النفس و علي الغير. فانّ الاقرار ان حمل علي المصطلح، فالقيد للتاكيد علي اي حال، و لا يكون لغواً. و الاّ فللتّأسيس علي اي حال. و المراد ان اقرارهم علي انفسهم نافذ مطلقا. فان اقتضي اسقاط حق للغير ثابتٍ،‌ علي وجه التبعيّة. فسماع ذلك انّما هو من جهة انه اقرار علي النفس بالاصالة و علي الغير بالتبع، فهو اقرار مشوب بالدعوي.

قلت: ان الحكم بالجواز المطلق[17] علي اطلاقه، مع ما ذكرت (من التفصيل بارادة اسقاط ما عليه بالاصالة و ما علي الغير بالتبع) تناقض. و اما بقاء الاقرار المقيد بما له: ففيه ايضاً اِن اريد المعني المصطلح و كان القيد للتاكيد، فهذا اوضح شاهد علي انّ السماع انما هو بالنسبة الي ما هو علي نفسه، لا ما هو علي غيره، اصالة كان او تبعاً. و اِن حمل علي المعني اللّغوي، فالامر اوضح. لان التقييد بـ «علي انفسهم» حينئذ بمعني التعليل او الاجتراء[18] عما كان علي غيرهم. فما اقتضائه اسقاط [حق] الغير الثابت علي وجه التبعيّة؟

فقولك: ان سماع ذلك انّما هو من جهة انه اقرار علي النفس بالاصالة و علي الغير بالتّبع، اول الدعوي و لا برهان عليه، سيّما مع اعترافك بانه مشوب بالدعوي. و الدعوي مما لا يثبت الحكم بمجردها.

و يرد عليه ايضا ان «اقرارهم علي انفسهم»‌ ليس له نسبتان، بل هو امر واحد. و انما النسبتان لنفس الطلاق مثلاً، اي المُقَرّبه. و هو ليس نفس الاقرار علي النفس.

و اما التفريع بقوله «فالتصرف المقرّبه..»[19]، فهو يشعر بان العلة هو كونه مما يتعلق به و يختصّ به، يعني اذا كان المقرّبه مما يختصّ بالمقر فاقراره نافذ فيه سواء كان له او عليه. و اذا كان مشتركاً مع الغير فلا يُسمع الا ما كان اقراراً علي نفسه. و هذا اعتراض عن ملاحظة علّية الاقرار علي النفس رأساً. و لا ادري كيف يصير معني قوله(ع): «اقرار العقلاء علي انفسهم جايز» انّ الاقرار اذا كان فيما يختصّ به فيُسمع سواء كان له و عليه، و اذا كان فيما يشترك معه غيره فلا يسمع الاّ ما كان عليه. مع انّ ذلك محض دعوي، لا دليل عليه.

و ايضاً: فلا ريب انه لا يمكن الحكم بترتب اثر الطلاق او النكاح في الواقع، الا مع فرض تحققهما في الخارج بتمامهما. فما[20] يُسمع من الاقرار في حق المقرّ بالنكاح[21] ظاهراً، ليس من جهة سماع الاقرار بالايجاب فقط، او القبول فقط، حتي يترتب عليه ثمرة‌ احدهما فقط. اذ لا ثمرة لاحدهما فقط، ابداً. فبعد فرض تحقق الاقرار بالمجموع فيرجع القبول و عدم القبول[22] الي كونه اقراراً علي النّفس و علي الغير. و هو كما يختلف فيه [فيما] كان مشتركاً بينهما، يختلف ايضاً فيما يختصّ باحدهما. فلا وجه للفرق بينهما. فظهر بذلك انّ تقدير قوله «فيما يتعلق به» لا دليل عليه، بل فاسد جزماً و موجب لالغاء[23] قوله(ع): «علي انفسهم»، او تخصيص الرّواية بمثل الطلاق و العتق.

فان قلت: انّه لم [يبتنِ][24] كلامه علي التقدير الصناعي، بل استنبطه عن لفظ الرواية، كسائر المدلولات الالتزامية.

قلت: انّ قوله «فيما يتعلق بهم»، اما يراد به المعني المساوق لقوله «علي انفسهم»، فيصير تاكيداً بعد تاكيد، اذا اريد من الاقرار، المصطلح. فلا مجال لارادة‌ النفوذ بالنسبة الي الغير تبعاً‌ ايضاً. و كذا لو اريد معني اللغوي. لا هما مفيدان له[25]. او يراد به ما يختصّ بالمقرّ، كالطلاق و العتق، لا ما يشترك بينه و بين غيره. فحينئذ لا مناص عن التقدير الصناعي الذي لا دليل عليه و هو خلاف الاصل و الظاهر و موجب لتخصيص الرواية بمثل الطلاق والعتق و اخراج غيره من الاقارير الواردة‌ علي العقود و المعاملات. و هو كما تري.

 

و قوله: «و علي هذا فحكم التصرف الخ…»، هذا قياس مع الفارق. اذ الاقرار للغير فيما لا يشاركه احد في اليد، انّما يُسمع في الكل، لانه اقرار علي النفس في الكل. بخلاف ما لو شاركه غيره، فانّ اقراره لثالث، اقرار علي النفس و علي الغير الذي هو شريكه في اليد. و الطلاق و نحوه (مما يختص به) مشتمل علي ما هو حق له و لغيره معاً. فالاقرار به اقرار علي النفس و علي الغير. هذا خلف.

 

قوله: «و لما كان… الي آخره»: فيه ان ثبوت الولاية عليه و اختصاصه به لايوجب كونه اقراراً علي نفسه. كما لا يخفي بل هو اقرار علي النفس[26] من حيث هو قاطع لتسلّطه، و اقرار علي الزوجة من حيث انه مسقط لحقوقها.

 

اذا عرفت هذه المقدمات فاعلم: ان الاشكال في المسئلة في مقامين: الاول: انّ‌ حكم المرئة بينها و بين الله اي شيئ؟ و كيف حكم غيرها من باب الحسبة-؟ و الثاني: ان المخاصمة بين الزوجين كيف يرتفع؟ و كيف حال المرافعة‌ اذا تنازعا-؟

 

اما المقام الاول: فنقول: ان علمت المرئة بصدق الزوج، فلابد ان تقبل قوله، و يسقط عنه حقوقها كما يسقط حقوقه. و يجوز لها التزويج بغيره. و لا يجوز لغيرها[27] مباشرة امر تزويجها، و ليس له منعها من باب النهي عن المنكر. و لا اشكال في شيئ من ذلك.

و ان علمت كذبه، فلا يجوز لها قبول قوله و تزويجها بالغير[28]. و اما في اسقاط حقوقها فلا شبهة في عدم سقوطها في نفس الامر. و لكنّ الامر في اسقاطها بيدها. و هي مختارة في الاخذ (بالاستعلاء الي الحاكم، او التّقاصّ، و نحوهما) و عدمه. الاّ ان يزاحمه واجب مثل الاضطرار الي النفقة بحيث يتوقف بقاء ‌الحيوة باخذها و نحو ذلك، فيجب عليها المطالبة ‌حينئذ. و اما حقوق الزوج، فقد اسقطه هو باقراره. اذ اقرار العقلاء علي انفسهم مسموعة.

نعم: لو كذّب نفسه و طالب حقه، فعلي المرئة ان يوفيها بينها و بين الله و ان لم تكن ماخوذة عليها في ظاهر الشرع.

 

و اما اذا كانت جاهلة بالحال ولم يكن الزوج متّهما، فلا يجوز تكذيبها ايّاه. لحرمة اتهام المسلم و تكذيبه من دون حجة. و الظاهر انه يجوز لها قبول قوله ان كان[29] ثقة. و المراد بالجواز هنا ما يشمل الوجوب، يعني يجب تصديقه فلا يجوز لها مطالبة حقوقها منه[30]. و يجوز لها التزويج و نحو ذلك. و كذلك يجوز لغيرها[31] المباشرة في امر تزويجها بالغير و اجراء الصّيغة‌ من قِبلها و نحو ذلك. و ذلك لانّ ذلك اِخبار صدر عن مسلم ثقة.

 

و قول المسلم و ان كان محمولا علي الصدق حقاً، الاّ انّه اذا عارضه شيئ اخر (مثل قول مسلم اخر، او اضرار، او اشتغال ذمّة) فلابد من النظر فيه. فنقول فيما نحن فيه: ان لوحظ كونه اخباراً عن ضرر نفسه، فيسمّي بذلك اقراراً، و يسمع علي نفسه بالخصوص. فانه مع انه اخبار مسلم، معتضد بالاعتبار و هو ان العاقل لا يكذب علي نفسه بشيئ يضرّه. فهو خبر و اقرار معاً. و ان لوحظ من حيث انه اخبار بما يوجب فكّ وثاقه و زوالَ استصحاب ممنوعيّتها عن تزويجها بغيره، فان كان ثقة ‌فيجب قبوله. لانه خبر صحيح و خبر الواحد حجة شرعية اذا لم يعارضه ما هو اقوي منه او مساو له. بل لا يبعد الاكتفاء بمحض حصول الظنّ و الوثاقة و ان لم يكن المخبر عادلاً، كما هو الاظهر عندي في خبر الواحد[32].

 

بل لا يبعد حينئذ الاكتفاء بعدم الاتّهام. بل هو متعيّن. لان ما دلّ علي حمل قول المسلم علي الصحة، اقوي من هذا الاستصحاب. و يرشدك الي هذا تتبّع ابواب الفقه؛ مثل قبول خبر من يخبر باشتراء مال الغير، يجوز ذلك اشترائه عنه و ان كنت عالما بكونه بالامس مال الغير. و يجوز اجراء الصّيغة دواماً بخامسة وكالتاً لمن اخبر بموت رابعته، مع علمك بكونه صاحب اربع. و كذلك باحدي الاختين اذا اخبر بموت الاخري او طلاقها و ان كنت عالما به[33].

 

و كذلك لنفس الخامسة و الاخت يجوز التزويج باخبار الزوج عن موتهما او طلاقهما. و من هذا القبيل قول القاسم و المترجم و نحوهما. و جواز العمل بقول المطلّقة ثلاثاً لزوجها: انّي زوّجت و حلّلت لك نفسي. و المشهور حكموا باستصحاب كونها ثقة، موافقاً للصحيحة الواردة فيه[34]. و كذلك العمل بقول كل امرئة تدّعي فوت زوجها، او طلاقه ايّاها، كما هو المشهور. الي غير ذلك من المواضع التي لا حاجة الي ذكرها. و الاستصحاب المانع هنا موجود في كل المذكورات. مع ان اصل ذلك الاستصحاب في الاغلب ناش اما من فعل مسلم او قوله. فكما انّا نكتفي في اصل المزاوجة و الملك و غيرهما بقول المسلم و نحكم بصحتهما[35] فكذلك في قطع انسحابهما[36]. فاذا وجدنا رجلاً و امرئة يعترف كل منهما بالزوجية بينهما، نحكم بصدقهما، فيسمع قول كل منهما في ادعاء قطع علاقته عن الاخر[37] ايضاً، ما لم يعارضه انكار الاخر.

 

و الحاصل: انّ اخبار المسلم ان كان علي ضرر نفسه، فهو بعنوان الاقرار. و ان كان علي ضرر غيره لاجل نفسه او من يقوم مقامه، فهو خبر بعنوان الدعوي. و ان كان يُثبت حقاً [لغيره، فهو خبر بعنوان الشهادة. و ان كان يثبت حكما][38] لا يعارضه غيره من الامور المذكورة و ليس له مزاحم بالفعل، فهو خبر محض و ان كان قد يصير اقراراً. كما مرّ الاشارة اليه.

و ما نحن فيه حينئذ من هذا القبيل؛ فلابد ان يسمع فيه اذا لم يكن متّهما، اذ هو خبر مسلم لا معارض له، سيمّا اذا اسقطت المرئة حقها و لكن تريد ان تعرف جواز تزويجها بالغير. [فلها الجواز] اذ الامر الذي كان مانعاً عنه، هو يد الزوج عليها و كونها زوجة له، و المفروض ارتفاعها باقراره. فاقرار الزوج متضمّن لامور: احدها اقرار علي نفسه باسقاط سلطنته عليها. و الثاني اخبار بسقوط حقوقها. و الثالث كونها خالية عن المانع بحيث يجوز لها التزويج بغيره بينها و بين الله.

 

و الاول سقط باقراره من حيث انه اقرار علي نفسه. و الثاني باسقاط المرئة حقها بالفرض. فيبقي اخباره عن خلوّها عن مانع التزويج، بلا معارض. و ان كان الزوج ثقة، فالامر واضح، و الاّ فيجوز العمل به ايضا و ان اعتبرنا عدالة المخبر مطلقا، اعني حتي في غير الحديث المصطلح،‌ كما هو مورد آية النبأ من جهة المفهوم و اخذ العموم في مفهوم الخبر و مهيّته في مقابل الشهادة، غير مسلّم مطلقا. كما يستفاد من استدلالهم بالاية لحجّية الخبر مع انّ حدودها، الواقعة الخاصة. كما لا يخفي. و ذلك لان المسلّم من اعتبار العدالة انّما هو اذا اريد بالخبر اثبات تكليف و شغل ذمّة، و يجوز ذلك مما يكون اقوي منه. و المفروض فيما نحن فيه عدمه، لعدم المعارض الاقوي.

و كيف كان: فالمراد بجواز العمل بقوله، وجوبه. كما هو المراد في جواز العمل بخبر الواحد. كما هو واضح.

و ما يتوهم انّ الزوجة‌ حينئذ مخيّرة بين التصديق و التكذيب؛ و ان صدّقته فيجوز لها التزويج بالغير، و الاّ فلا. فهو بمعزل من التحقيق. اذ لا معني لابتناء حكم الله علي خِيرتها المتغيّرة.

و مما يؤيد سماع قول الزوج حينئذ، هو الاَخبار الواردة في قول الزوج للزوجة «اعتدّي»[39]، في لزوم العدّة. و توهم ان قوله حينئذ يساوي مع قول الاجنبي لو اخبرها بالطلاق. فيه ما لا يخفي؛ اذ يد الزوج حينئذ مانعة عن امضائه، فيعتبر فيه العدلان. كما يعتبر في المدعي علي ذي اليد في ساير الاموال و الحقوق. و الظاهر ان الاِخبار بالنكاح ايضا كذلك، يعني اذا اخبر رجل امرئةً[40] انّ اباك قد زوّجك ايّاي في حال صغرك. فلا مانع من القبول و التمكين. الاّ ان تدّعي كذبه او تتّهمه فترافع الي الحاكم.

 

و قد صرّح بما يقرب مما نحن فيه سيد المحققين في شرح النافع في مسئلة «ادعاء المطلّقة ثلاثاً للطلاق و التحليل للزوج»، فقال يسمع لانّه دعوي لا معارض لها، و لانّ قبول قولها في ذلك ليس بابعد من قبول قول ذي اليد في انتقال مال غيره اليه، و نحو ذلك. مع اتفاقهم ظاهراً علي قبوله، فتامّل. انتهي.

و ليس ذلك الاّ لعدم مقاومة استصحاب المنع، لما دلّ علي لزوم حمل قول المسلم علي الصّحة. سيّما بالنسبة الي من يريد التزويج بمحض قول الزوج و سكوت الزوجة و جهلها بالحال.

و مما ذكرنا ظهر حال ما لو كان الزّوج ثقة او غير متّهم.

و اما لو كان متّهما فلا يبعد القول بجواز استماع قوله حينئذ ايضاً. اذ ليس ما يعارضه بالفرض الاّ الاستصحاب. و لا تبعد لترجيح ما دلّ‌ علي حمل قول المسلم و فعله علي الصحّة مطلقا، علي هذا الاستصحاب. كما في نظائره. نعم: يستحبّ الاحتياط و ترك التزويج للمرئة‌ حتي يظهر لها حقيقة الحال. كما نبّه[41] عليه فتوي المشهور في المطلّقة ثلاثا و الصحيحة الداّلة عليه[42].

و امّا المقام[43]الثاني:‌ و هو بيان حال المرافعة و المخاصمة: و هو اِمّا بتكذيب الزوجة ايّاه صريحاً و قطعاً. و اِمّا ادعاء ظن كذبه، او تقول انّي لا اترك حقي و لا علم لي بسقوطه حتي يثبت عليّ سقوطه فهو باق علي حاله.

اما الصورة الاخيرة[44] فالظاهر عدم سماع دعويها. لانه ليس لها شيئ يُعتمد عليها الاّ الاستصحاب (و المفروض اَنّها لا تنكر قوله و لا تكذّبه) فلابدّ من تصديقه لما مرّ.

و اما الصورة الثانية[45]: فسماعها موقوف علي سماع الدعوي الظنية. و الاظهر عندي سماعها، فلها ان تُحلفه علي عدم الكذب. و ليس له الرّد كما حققناه في محلّه.

و اما الصورة الاولي: فلاريب ان دعوي الزوجة مسموعة. و لكنّ الاشكال في تقديم قول ايّهما[46]. و ما يتوهم من تقديم قول الزوج بلا يمين، فهو مما لا يلتفت اليه و الكلام في انه يتوجه اليه او اليها؟-؟:

 

و لابد في تحقيق المقام من تمهيد مقدّمة في تحقق معني المدعي و المنكر و بيان معني قولهم(ع): «البيّنة علي المدعي و اليمين علي من انكر». فاعلم انهم عرّفوا المدعي بتعريفين: احدهما انه «من يُترك لو تَرك». و الثاني انه «من يدعي امراً خفيّاً بخلاف الاخر، فيكون الراجح هو قول الاخر» و الرجحان اما من جهة مطابقته للاصل او الظاهر. فاذا تواردا فلا اشكال. و ان كان موافقا لاحدهما دون الاخر، فيبني علي تقديم الاصل او الظاهر. فمعرفة المدعي و المنكر من فروع هذا الاصل.

 

و لعل ما يظهر من بعض الاصحاب- ان القول في تعريف المدعي ثلاثة: احدها «من تُرك لو تَرك»، و الثاني «من يدعي خلاف الظاهر»، و الثالث «من يدعي خلاف الاصل»- مسامحة باعتبار المئال. و الاّ فالاقوال حقيقة اثنان[47]. كما يظهر من ساير الفقهاء. و صرح به فخر المحققين في الايضاح[48].

 

ثمّ: ان مرادهم من الظهور اعم من ان يكون ذلك من جهة غلبة‌ العادة، او العرف، او القراين، او لحصول الظن من جهة اصالة‌ حمل فعل المسلم علي الصحة، [ا]و ظهور ذلك و غلبة‌ الظن. و هذه التعريفات من المصطلحات الفقهية. فالمهم بيان المأخذ من جانب الشارع. و لما كان وضع هذا الباب (و العلة الغائية لعقد البحث فيه) لرفع النزاع بين العباد فلابد اولاً من ملاحظة معني النزاع. فنقول: النزاع عبارة عن قضيتين متخالفتين واردتين علي موضوع واحد من شخصين او اكثر[49]، من اكثر. فذلك اِما يحصل باثبات صريح و نفي صريح[50]؛ مثل ان يقول احدهما «لي عليك كذا» و يقول الاخر «ليس عليّ ما تدعيه» او «ليس عليّ شيئ». او ما يتضمن ذلك؛ من ان يقول «لي عليك من ثمن فرسي كذا»، و يقول الاخر «ما اشتريت منك شيئا». و هكذا.. و اِمّا يحصل بقضيتين متخالفتين او اكثر، من غير جهة التناقض اولاً،‌ و ان استلزمه بالغرض، مثل ان يقول احدهما «ارضي عندك كانت بالاجارة»، و الاخر يقول «بالاعارة». او يقول احدهما «وقع البيع في حال الرضا»، و الاخر يقول «في حال الاجبار». او يقول احدهما «في حال الكبر»، و الاخر «في حال الصّغر». او يقول احدهما «تمّ الكيل و الوزن»، و الاخر يقول «نقص». و ما يحصل بين شخصين مثلا احدهما يدعي الجناية و الاتلاف علي الاخر مثلا. و الاخر يقول «اني لا اعلم بما تذكره». و هكذا..

 

و قد جعل الشارع معيار رفع النزاع اموراً مثل الاقرار، و البيّنة، و اليمين. اما الاقرار: فانّما جعله نافذا علي الفاعل اذا كان مما يقول ضرر[51] اليه، علي تفصيل ذكروه في محلّه. و اما البيّنة و اليمين: فقد استفاض بل تواتر عنهم(ع) بانّ «البيّنة علي المدعي و اليمين علي مدعي عليه- او علي من انكر». فيقع الاشكال في فهم هذا الحديث (الذي هو معيار رفع النزاع) من وجهين: احدهما بيان مرادهم(ع) من المدعي و المدعي عليه و حقيقتهما. و الثاني بيان معني هذا التفصيل و بيان المناص في صورة عدم التمكن منهما او من احدهما.

فنقول: انّ الالفاظ اذا لم يثبت فيها حقيقة شرعية، فيرجع فيها الي العرف العام، علي الاصح. و لا ريب في دخول ما هو اثبات صريح و نفي صريح‌ (او ما يتضمنهما، او ما يستلزمهما مع كون احدهما اظهر من الاخر) في عموم الرواية؛ فقال للمثبت المطالب، انّه مدعي. و لمن نفاه انه مدعي عليه [و] منكر. فلا اشكال فيه. انّما الاشكال في القضيتين المتخالفتين بالتضاد؛ كالاجارة و الاعارة. فانّا ان اعتبرنا الانكار الضمني الحاصل من جهة التضاد، فهو موجود في الطرفين. فكل واحد منهما مدعي و منكر. فلا يحصل المناص بالعمل بالرواية، علي ما هو الظاهر منها[52]. و ان لم نعتبر ذلك فلم يندرج تحت الرواية ‌اصلاً. و كذلك لو ادعي احدهما شيئاً، و قال الاخر لا علم لي بذلك. و عدم اندراجه تحت الرواية، اظهر.

 



[1] اي علي ذمّة المقرّ.

[2] كمن يجب نفقته علي المقرّ.

[3] اي بالاقرار.

[4] اي باستقلال الاقرار في كونه سبباً للسقوط.

[5] اي في السقوط.

[6] و في النسخة: ان.

[7] و في النسخة: سقوطه

[8] و في النسخة: ه.

[9] جوابٌ و ردٌّ علي «ربّما يُحمل الخبر…».

[10] و في النسخة: الجنبية.

[11] و في النسخة: و في المسلّم.

[12] و في النسخة: دفعهما.

[13] و في النسخة: حق الاخر.

[14] استمساك بقاعدة «مقدمات الحكمة».

[15] و في النسخة: كالناح.

[16] اي الحكم المطلق بنفوذ الاقرار.

[17] و في النسخة: ان الحكم بتبعاً الجواز.

[18] لعلّ فرقاً بين «الاجتراء علي …» و بين «الاجتراء عن …»- كما بين «الرغبة علي …» و بين «الرغبة عن …».

[19] لا يذهب عليك؛ ارجع المصنف(ره) البحث، بعد مقال مشروح طويل، الي اول مبحث «ربما يحمل الخبر..» فراجع.

[20] حرف «ما» موصولة و مبتدأٌ و جوابه: ليس من جهة…

[21] و في النسخة: قي حق المدعي النكاح.

[22] اي تنفيذ الاقرار و عدم تنفيذه.

[23] و في النسخة: لالقاء.

[24] و في النسخة: لم يبيّن.

[25] اي المعني الاصطلاحي و المعني اللغوي لا يفيدان لهذا القائل. او: كلا المعنيين لا يفيدان ما اراده القائل.

[26] و في النسخة:.. علي النفس و علي الغير.

[27] و في النسخة: و يجوز له التزويج بغيره ولا يجوز لغيرهما.- و له وجه بعید.

[28] و في النسخة:… قوله و جواز تزويجها بالغير.

[29] و في النسخة: ان كانت.

[30] و في النسخة: منها.

[31] و في النسخة: لغيرهما.

[32] هذا مما انفرد به المصنف(ره) و اشتهر في الالسن.

[33] و في النسخة: عالما به بكون.

[34] الوسائل: كتاب الطلاق، ابواب اقسام الطلاق و احكامه، ب11 ح1.

[35] و في النسخة: بصتحها.

[36] اي انسحاب المزاوجة و الملك- الانسحاب: جري شيئ مع شيئ. او جري امرمع امر- و في النسخة: انسحابها.

[37] و في النسخة: الاخري.

[38] نقلنا ما بين العلامتين من الهامش.

[39] الوسائل، كتاب الطلاق ابواب مقدماته و شرائطه، ب16 ح2 الي5.

[40] و في النسخة: امراته.

[41] و في النسخة: كما بيّنه.

[42] الوسائل، كتاب الطلاق، ابواب اقسام الطلاق و احكامه، ب11 ح1.

[43] و في النسخة: المقالة.

[44] اي اذا قالت اني لا اترك حقي.

[45] اي اذا ادعت كذبه ظنّاً.

[46] اي: لكنّ الاشكال في تعيين ايهما مدعي و ايّهما منكر.

[47] و في النسخة: اثبات.

[48] ايضاح الفوائد، كتاب القضاء، المقصد الثالث في الدعوي و الجواب- راجع و تامّل.

[49] اي اكثر من قضيتين.

[50] و في النسخة: او نفي صريح.

[51] و في النسخة: ضرره.

[52] اي علي ما هو الظاهر من الرواية- و في النسخة: منهما.