كتاب الطلاق: هذه رسالة‌، في انفراد مسئلة الطلاق بعوض، عن الخلع. (2)

و اما الثاني: فكثير؛ منها صحيحة عبدالله بن سنان عن الصادق(ع): «قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً مُخَالِفاً لِكِتَابِ اللَّهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ وَ لَا يَجُوزُ عَلَى الَّذِي اشْتُرِطَ عَلَيْهِ وَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ فِيمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَل‏»[1].

المقدمة الثالثة: انّ المفارقة بين الزوجين اِمّا يحصل بالفسخ (كما في المفارقة بسبب ثبوت رضاع بينهما[2])، او بالعيب. او بالارتداد و نحوها. و اِمّا بالطلاق؛ و هو ازالة قيد النكاح بينهما بلفظ «طالق» مجرداً، او بالخلع و المبارات، او بغيرهما كالظهار و اللّعان.

ثم: ان الفقهاء بوّبوا لكل منها باباً فجعلوا باباً للطلاق و عرّفوه بانه «ازالة قيد النكاح بلفظ طالق» و ارادوا به المجرد. و باباً للخلع و المباراة، و عرّفوهما بـ «ازالة قيد النكاح بفدية بصيغة خلعت و باريت و نحوهما» مع فرق بينهما.

 

و لكنهم ذكروا في باب الطلاق، اقسام الطلاق و جعلوا من اقسامه، الخلع و المباراة، فقالوا انّه ينقسم باعتبار، الي الواجب و المكروه و المستحب. و باعتبار اخر، الي البائن و الرجعي. و ذكروا للبائن اقساماً متعددة[3]، منها الخلع و المباراة، فاَعملوا في الكلام استخداماً. حيث ارادوا من لفظ الطلاق في صدر بابه، هو ما كان بلفظ طالق مجرداً، و من ضميره في قولهم «ينقسم الي بائن و رجعي» المعني الاعم الشامل لهما و لغيرهما، بان يكون مشتركا بينهما لفظاً. و المراد منه الطلاق المجرد و ما في حكمه كالخلع المجرد (علي القول بكونه طلاقاً كما سنذكره). ثمّ اختلفوا في لزوم ذكر صيغة الطلاق مع الخلع و عدمه. و الاظهر عدمه. كما هو المشهور. و الظاهر عدم الاشكال في كونه طلاقاً يعدّ من الطلقات، بمعني انه يجري عليه احكامه.

 

و بعد هذا كله، فاعلم: انهم (بعد ما اشترطوا في الخلع، كراهة الزوجة فقط الي حدّ يخاف معها مخالفة حدود الله، بلاخلاف ظاهر. و لزوم الايجاب و القبول، بجعله من عقود المعاوضات)، تكلّموا في انّ ذلك هل يتحقق بلفظ الطلاق بعوض؟ بان يقول موضع «خلعتك بكذا»، «انت طالق بكذا»، ام لا؟-؟ فالمعروف من مذهبهم، نعم. و لا يخفي ان مرادهم هنا، قصد الخلع المعهود و المشروط فيه الكراهة علي الوجه المعهود بهذا اللفظ و الاكتفاء به، و هو قسم من اقسام الخلع. علي هذا، فالخلع اعم من «الطلاق بالعوض» علي هذا المعني مطلقا.

و الحاصل: ان الخلع قد يقع بلفظ الخلع فقط. و قد يقع  به مع ضمّ الطلاق معه. و قد يقع بلفظ «طالق بكذا». و امّا ان لفظ «طالق بكذا» هل له مصداق اخر غير الخلع و المباراة، [و] يكون من اقسام الفراق ايضا، ام لا؟-؟ فان تحقق له مصداق اخر، كما فيما لم يكن كراهة اصلا. او كانت مختصّةً بالزوج، فيكون النسبة بينه و بين الخلع، عموماً من وجه. و سيجيئ الكلام في تحقيقه. و ما تقدم من كون الخلع اعم منه مطلقا، هو اذا لم نقل بثبوت مصداق اخر له، بل يكون من الالفاظ المؤدية للخلع محضا و المباراة ايضا.

اذا عرفت هذا، ظهرلك ان الطلاق له اطلاقان: احدهما المعني الاخص. و هو المغاير للخلع و المباراة. و هو الذي عنونوا له باباً و افردوا له كتابا و عرّفوه بانّه «ازالة النكاح بلفظ طالق»، يعني من دون اعتبار شيئ اخر. بل اعتبار عدمه و نظر هم الي ذلك. حيث افردوا الخلع و المباراة، فلك ان تقول: انّ مرادهم هنا حيث جعلوها من باب الطلاق، انه يجري عليه حكمه و ان لم يكن طلاقا حقيقيا.

و ظهرلك ايضا ان ما ذكرنا من فرض ثبوت مصداق اخر لقولنا «طالق علي كذا» غير الخلع، فهو داخل في الطلاق بالمعني الاخص. فيكون من باب الشرط الخارج عن المهيّة و القيد المقارن له. بل و يمكن ادخاله فيه بالمعني الاعم ايضا، كما لو باراها بشرط عوض خارج عن المباراة. و سيجيئ تمام الكلام.

اذا تحقق لك، هذه المقامات، فنقول: قد ظهر لك ان الاشكال في ان الطلاق بعوض، هل هو مغاير للخلع و المباراة، او ليس الاّ القدر المشترك بينهما.  و الاظهر عندي اعم منهما مطلقاً، بناءً علي المختار من انّهما ايضا قسمان من اقسام الطلاق و ليسا مجرد الفسخ.

و الحاصل: انه يمكن تحقق فرد من الطلاق بعوض، لم يكن احداً منهما. و هو الظاهر من كلام جماعة من الاصحاب، بل لم نقف علي مصرح بخلافه الاّ الفاضل السيد محمد(ره) في شرح النافع و بعض من تاخّر عنه كالفاضل الاصفهاني في شرح القواعد. و ما قد يتوهم انّ فيما ذكره المحقق و من وافقه، حيث قالوا «لو خالعها و الاخلاق ملتئمة، لم يصح الخلع و لم يملك الفدية. و لو طلّقها و الحال هذه [بعوض]، لم يملك العوض و صح الطلاق، و له الرجعة»[4] تصريحا بان الطلاق بعوض ليس له فرد الاّ الخلع، و الاّ لما حكموا بعدم تملك العوض. ففيه ما لا يخفي، لانّه[5] يحتمل ان يكون مرادهم بانه لو طلّقها بعوض حيث يراد الخلع. كما سئلته الزوجة خلعا فقالت «خالعني بكذا»، فقال «انت طالق بكذا» و الاخلاق ملتئمة. بل انما هو الظاهر منهم، كما سنبينه و نوضحه. فاين التصريح؟

 

و من جملة عباراتهم عبارة ابن ادريس حيث انه بعد ما ذكر اشتراط كراهة الزوجة فقط في تحقق الخلع، و كراهتهما معاً في المباراة، قال: «فاما اذا كانت الحال بين الزوجين عامرةً‌ و الاخلاق ملتئمة و اتفقا علي الخلع فبذلت له شيئاً علي طلاقها، لم يحلّ له ذلك و كان محظورا. لاجماع اصحابنا علي انه لا يجوز خلعها الاّ بعد ان يسمع منها ما لا يحلّ ذكره؛ من قولها لا اغسل لك من جنابة، و لا اقيم لك حداً، و لَاَوطئنّ فراشك من تكرهه، او يعلم ذلك منها فعلاً. و هذا مفقود هيهنا. فيجب ان لا يجوز الخلع»[6]. و يقرب منها عبارة ابن البرّاج في المهذّب. فلنذكر كلام الجماعة حتي يتبين الحال:

 

فمنهم فخر المحققين؛ قال(ره) في الايضاح في تعريف الخلع، بانه «ازالة قيد النكاح بعوض منها و كراهتها للزوج دونه، بلفظ خلعت. ثم قال و عرّفه المصنف بانه ازالة قيد النكاح بفدية. و قال المراد فدية لازمة لمهيته. فلا يرد النقض بالطلاق بعوض»[7]. و مراده ان اعتبار الفدية في الخلع، داخل في مهيّته. بخلاف الطلاق بعوض. فان العوض ليس بداخل في مفهوم الطلاق، بل هو قيد لاحق به. فالطلاق بالعوض، قد تصير خلعا اذا جمع شرائطه من اختصاص الكراهة بالزوجة و نحوه. و قد لا يصير، و ذلك مثل الهبة المعوضة المشروط فيها العوض.

فانّهم ذكروا في تعريف الهبة انه تمليك عين بنحو مجرد عن العوض[8] و القربة. و اجاب جماعة، منهم المحقق الثاني و الشهيد الثاني(ره) عن نقض العكس بالهبة المشروط فيها العوض. بان مرادهم في الحد تجردها عن العوض بماهيتها، لا مطلقا. فلا ينافي اشتراط العوض.

و وجه التمثيل و التنظير، ان يضع[9] الطلاق المجرد الذي هو القسم الثاني من الاقسام المذكورة في المقدمة الثالثة، موضع الهبة المطلقة، المعرّفة بالتعريف المذكور. و هو بمهيته مجرد عن العوض. و يضع الطلاق بعوض، المبحوث عنها، موضع الهبة المشروط فيها العوض.

فلنقدم الكلام في الهبة المطلقة و المشروط فيها العوض، لتسهيل الامر فيما نحن فيه: فنقول: انّهم ذكروا ان الهبة تمليك عين لم يكن العوض داخلا في مهيته، سواء‌ لم يكن هناك عوض او كان و لم يكن داخلاً‌ في مهيتها كالهبة المشروط فيها العوض. فان العوض ليس داخلاً‌ في مهية الهبة. بخلاف البيع، فانه تمليك عين داخل العوض في مهيته. لعدم تحقق حقيقيته الاّ بالعوض.

و الحاصل: ان الانشائات المملّكة في العقود، بعضها مشتمل حقيقتها علي افادة نقل ملك عن المنشئ و انتقال عوض اليه، و لها صيغة تدلّ علي ذلك كالبيع. بان يريد بلفظ «[بعت] هذا العين اليك، بان ينتقل ذاك العين اليّ». بل و «ان ينتقل ذلك العين اليّ» و من لفظ «قبلت» قبول النقل من البايع، و الانتقال من المشتري. بل و انشاء النقل من المشتري ايضا.

و بعضها يشتمل حقيقتها علي افادة نقل ملك عن المنشئ مع تجرده عن انتقال عوض اليه من الاخر. و لها صيغة تدلّ عليه، كالهبة.

و اشتراط انتقال العوض، مضر في الثاني و مخالف لمقتضي العقد، كاشتراط عدمه في الاول. و اما شرط عوض لذلك النقل المقترن بالانتقال و المقترن بعدم الانتقال، فهو غير مضر، كشرط عدمه. اذ هو خارج عن حقيقتهما. فكما يصح ان تقول «بعتك هذا الفرس بهذا المبلغ و شرطـ[ت] عليك ان تهبني ثوبا بعوض هذا البيع و شرطت عليك ان لا يكون هناك عوض للبيع المذكور بالعوض المذكور. و هكذا يصح ان تقول «وهبتك هذا الفرس و شرطت عليك ان تعاوضني من هذه الهبة بهبة ثوب لي» او «شرطت عليك ان لا تعاوضني من هذه الهبة بشيئ». فهذا الشرط خارج عن العقد في الموضعين، و لا غائلة فيه اصلا.

فالنقض بالهبة المشروط فيها العوض، غفلة. اذ العوض الماخوذ في البيع هو العوض الداخل في المهية، الذي يفهم انتقاله الي البايع بلفظ بعت. و العوض الماخوذ في الهبة المشروطة هو الخارج عن المهية. كما عرفت. و السّر في ذلك ان البيع بجوهر لفظه يدل علي عقد المعاوضة مع قطع النظر عن قول البايع بكذا. و قوله «بكذا» لاجل تعيين العوض، لا لافادة نفس العوض. بخلاف الهبة و الصلح، فانه ليس في مفهومهما اعتبار العوض.

فنقول: مرادهم في البيع انه «نقل ملك معين الي اخر بعوض لازم لمهيته». و ليس الهبة المشروطة فيها العوض، كذلك. لانّه اعتبر في مهيّتها تجردها عن العوض. صرحوا في تعريفها.

و ظهر مما ذكرنا، الجواب عن انتقاض تعريف الهبة بالهبة المشروطة فيها العوض؛ اِما بان يقال: المعاوضة في الهبة المشروطة انما هو بين الفعلين، فلا يرد انه تمليك شيئ في ازاء عوض لذلك الشيئ. حتي ينافي تعريف الهبة المطلقة. و من اعظم الشواهد علي ذلك انهم يعرّفون[10] الهبة مع قيد التجرد عن العوض. ثمّ يتعرّضون للخلاف في انّ الهبة هل يقتضي الثواب و العوض ام لا؟-؟ فان اقتضائها الثواب مناقض لتجردها عن العوض.

 

او يقال: سلّمنا ان العوض في الهبة المشروطة ايضا هو الموهوب الثاني، و لكن انتقال العوض لم يستفد من نفس الايجاب و القبول، بل من جعل الجاعل و انشائه[11] الجديد. فصح ان الهبة المشروطة، مجردة عن العوض اللازم لمهية العقد. كما هو كذلك في البيع. و هو المقصود في تجرد الهبة عنه، فهو داخلة في مطلق الهبة.

 

و الحاصل: ان البيع هو عقد يوجب تمليك عين في عوض عين بحيث يقتضي نفس العقد (اعني مجموع الايجاب و القبول) انتقال العوض عن كل منهما الي الاخر. و الهبة المطلقة تمليك عين مجردا عن ذلك العوض. و يخرج الهبة المشروطة عنها، اِمّا لانّها لم يعتبر فيها كون العوض عوضاً عن العين. [و اِمّا من جعل الجاعل و انشاء جديد بجعل فعل الهبة، عوضا عن فعل الهبة.]

 

[فان قلت:] فما الفائدة في جعل الفعل عوضا عن الفعل، و جعلهما هبتين و عدم جعل ذلك معاوضة صريحة بين العينين-؟

قلت: قد يكون مرادهما اظهار التودّد[12] من الجانبين‌، مع عدم حصول الضرر لاحدهما. فيجعلان ذلك في قالب الهبة مع شرط الهبة. فيحصل المودّة[13] و نفي الضرر، كلاهما. نظير الفرار عن الربا بهبتين في المتماثلين؛ كما انه يهب عشرة امنان من الحنطة علي ان اتّهبه[14] عشيرين منّاً من الشعير. او يقرضه عشرة دنانير و يبيعه منديلاً يستوي بدرهم بدينارين[15] بدون شرط. فحينئذ يحصل له العوض من دون عقد معاوضة بين العينين صريحاً. و انفصل[16] اعتبار العوضية عن العين تبعاً.

 

و الحاصل: ان العقود الشرعية متمايزة بالذات، و ان كان كثير منها متماثلة في كثير من الاحكام مع مخالفتها في بعضها. فقد يكون للفرار عن مقتضي بعضها الي ارتكاب بعض اخر؛ كما تريهم يفرّون من البيع الي الصلح، فراراً عن دعو[ي] الشفع. و عن معاملة المثلين مع التفاضل الي هبتهما متفاضلاً. او الي بيع محاباطي. و هكذا.. و من هذا ظهر لك الفائدة في القول بكون الهبة بمهيتها مجردة عن العوض مع دخول الهبة المشروطة فيها العوض. و القول بكون البيع بمهيته مندرجا فيه العوض. و جعل البيع مهية عليحدة، و الهبة المشروطة فيها العوض مهية عليحدة. و المميّز في الماهيتين[17]، كون العوض داخلاً‌ في مهية البيع دون الهبة، و ان اتّحدا في انتقال عين منه الي اخر في عوض عين اخر و لو بالتبع. و الثمرة هو اظهار المودة في الثاني؛ حيث جُعل النقلان في قالب النقل بلا عوض. و لا يوجد ذلك في البيع. و كذلك الثمّرة في العدول عن معاملة[18] المثلين متفاضلا. الي ما ذكرنا من الحيل للفرار من الحرام الي الحلال. فان الانتفاع من المال امر شايع شرعا و يمكن حصوله في قالب[19] الحرام و الحلال كليهما. فيمكن الفرار من الحرام بتبديل صيغتها بصيغة الحلال.

 

فخذ هذا و دع عنك ما ذكر في هذا المضمار. و اوجهها ما ذكره جماعة من المحققين من انّ المراد بالتجرد عن العوض في الهبة، هو عدم لزوم العوض. يعني ان الهبة عقد يفيد التمليك من غير لزوم عوض فيه، كما يلزم في البيع. و لا يشترط في تحققه عدم العوض. بل يكفي عدم اشتراط العوض، و يصح مع التجرد عن العوض. و غاية توجيه هذا الكلام ان يرجع الي ما حققنا في معني العوض، يعني انه لا يعتبر فيه عوض لازم للمهيّة و ان اعتبر فيه عوض خارج عن مهيّته كما في المشروطة بالعوض.

و فيه[20]: انّ هذا يتمّ مع اعتبار عدم العوض في مهية الهبة. كما حققناه. و هو ظاهر عباراتهم، و لا حاجة الي عدم اعتبار العوض و الخروج عن ظاهر عباراتهم. و انّما قلنا غاية توجيه ذلك..،‌ لانّه يحتمل ان يكون مراد الجماعة انّ الهبة هو عقد يفيد التمليك بلا اعتبارٍ و اشتراطٍ في تحققه؛‌ فقد يتحقق مع اعتبار العوض، كالهبة المشروطة. و قد يتحقق بدونه كالمطلقة، او المشروطة فيها عدم العوض. و لا يخفي انّ فساد الكلام حينئذ اكثر بمراتب شتّي. و من مفاسده ان التعريف يرجع حينئذ الي التقسيم و ذكر الاقسام في مقام التحديد. اذ لابد ان يكون الحد قدراً‌ مشتركا بين الاقسام يصدق علي جميعها و يحمل عليها. و حمل ما لا يعتبر فيه العوض علي ما يعتبر فيه، تناقض. بخلاف ما حقّقناه، اذ لا تناقض فيه اصلا. و من مفاسده انتقاض القسم الاول (الذي هو بشرط العوض) بالبيع و غيره.

ثمّ: ان ما ذكره الجماعة مع اجماله و اِلغازه الغير المناسب للحدود، مناف للّغة و العرف. فمن «مصباح المنير» انّه قال: «وهبت لزيد مالاً- اَهبه له هبة: اعطيته بلا عوض». و عن الراغب في المفردات «الهبة ان تجعل ملكك[21] لغيرك بغير عوض». و في الفارسية معناه بخشش و بخشيدن. و المتبادر من هذه الكلمات، هو التمليك بلا عوض. لا بلا لزوم العوض، كما ذكر الجماعة.

 

و من الغرايب ما وقع من بعض الشافعيه؛ حيث ذهب الي انّ الهبة في المشروطة بالعوض، مجرّد تسمية و ليس المراد معناه. كما اختار ذلك في «صلح الحطيطة» و غيرها فيما لا عوض فيه، او جعل فيه العوض بعض مال المصالح، كما لو صالح دعويه الالف مع اعتراف المدعي عليه، بالخمسة مأة منه. و كما لو صالح احد العبدين المدعي بهما[22]، مع اعتراف المدعي عليه، باحدهما. فانه لا يصح عنده الصلح بلا عوض، و لا بعوض هو بالعين مال المصالح. و اما نحن [فنقول] تصح الصلح[23]. لانّا لا نقول بكونه معاوضة مطلقا. بل هو معاوضة اذا اشتمل علي العوض. و الظاهر عدم الخلاف فيه بيننا، كما يظهر من التذكرة. فاصل الصلح انما هو الرضاء و الاتفاق. و انما يصير معاوضة، لو وقع الاتفاق علي عوض. فهو مثل قولنا «ملّكتك» فانه اذا اعتبر فيه العوض و قيل «بكذا» يصير بيعاً، و ان عري منه يصير هبة.

 

اذا عرفت هذا، علمت انّ المناسب في الهبة المشروطة بالعوض، ان لا يؤدّي بكلمة «الباء» العوضية الداخلة علي العوض. فلا يقال «وهبتك هذا بهذا» اذ هو المناسب للبيع. فان قلنا بجواز مثل هذا اللفظ اذا قصد البيع، فيصير بيعا، لا هبة. بل المناسب ان يؤدّي بكلمة «علي» فيقول «وهبتك هذا علي ان تهبني ذاك» او: تفعل لي هذا العمل. او: تعاملني هذه المعاملة. او يقول: و شرطت عليك ان تفعل احد المذكورات.

 

اذا تحقق هذا، فنرجع الي الكلام في الطلاق: و نقول: انّ له استعمالين: احدهما الطلاق الاخصّ. و هو «ازالة النكاح بلفظ طالق» مجرداً عن العوض. و هو مقابل الخلع و المباراة و الطلاق بعوض. و ثانيهما: الطلاق بالمعني الاعم؛ اعني ما يشمل كونه بلفظ الطلاق و شبهه، كلفظ «خالعت» بدون التعقب بالطلاق، في الخلع (علي القول بانه طلاق لا فسخ) و يشمل ما تجرد عن العوض، و ما اعتبر فيه العوض كالخلع (علي القول بكونه طلاقا)، و المباراة و الطلاق بعوض. و علي هذا فدخول الخلع في الطلاق بالمعني الاعم، كدخول الانسان في الحيوان. و لا ينافي اشتراط تحقق الانسان بالناطق، عدم كون الناطق داخلاً في مهية الحيوان. و اما الخلع علي القول بكونه فسخاً: فهو[24] لا يدخل في الطلاق في شيئ من الاستعمالين، و ان شاركها في كثير من الاحكام و الشرائط.

 

و قد ظهر [من] ذلك، ان «الطلاق بعوض»[25] لا يدخل في الطلاق بالمعني الاخص. بل هو من اقسام المعني الاعم. و امّا «الطلاق علي عوض»[26] بمعني اشتراط العوض فيه. فيمكن صيرورته من اقسام الطلاق بالمعني الاخص. و هو نظير دخول الهبة المشروطة فيها العوض،‌ في الهبة المطلقة المأخوذ فيها عدم العوض. اذ المراد بالطلاق بالمعني الاخص، هو ما يجرد بمهيته عن العوض. و هو لا ينافي اشتراط العوض. و يصح الاستدلال علي صحته حينئذ بعموم «اوفوا بالعقود» و «المومنون عند شروطهم». كما استدلوا بذلك في تصحيح الهبة المعوضة. بخلاف الطلاق بعوض المشتمله علي كلمة «الباء العوضية» فهو لا يتحقق الاّ مع الطلاق بالمعني الاعم، و صحته في صورة ارادة الخلع، و جامعيته شرائطه، مما لا خلاف فيه ظاهراً. و كذلك بطلانه، لو اراد به الطلاق بالمعني الاخص. [لـ]منافاته لمفهومه.

 

فالكلام[27]في مقامات ثلاثة: الاول: في انه هل يصح لو اريد به الطلاق بالمعني الاعم في غير صورة ارادة الخلع و جامعيته شرائطه ام لا؟-؟ و هل يتحقق له فرد غير الخلع و المباراة، ام لا؟-؟ الثاني: ان في صورة التجرد عن كلمة «الباء»، او فقد المعاوضة[28] (نظير المعاوضة في البيع و الخلع) و اقترانه بكلمة «علي» و ما في معناها، هل له وجه صحة ام لا؟-؟ الثالث: انه علي فرض الصحة، هل يقع بائناً، او يختلف في المقامات؟-؟

 

امّا الكلام في المقام الثاني: فيتوقف علي بيان معني الطلاق المضاف الي العوض، و موارد استعماله. فنقول: يتصور لهذا اللفظ معان متعددة: احدها: ان يقول الزوج «انت طالق بكذا» علي نهج «بعتك بكذا»، فيكون الطلاق احد العوضين في العقد، و الطرف الاخر هو البذل، كالخلع و المباراة. و ثانيها:[29] ان تهبه الزوجة شيئا علي ان يطلّقها. بان يكون هبة معوضة، يكون عوض الهبة فيها هو الطلاق. و ثالثها: ان تصالحه الزوجة مهرها او شيئا اخر علي ان يطلّقها. فيصدق عليه انه طلاق في عوض شيئ. و رابعها: ان يُجعل الطلاق شرطاً في ضمن عقد لازم. كان يصالح المهر بشيئ و يشترط في ضمن العقد ان يطلّقها. و خامسها: ان يُجعل المهر او مطلق الفدية، جعالةً‌ علي الطلاق. و سادسها:‌ ان يُجعل البذل شرطاً‌ في الطلاق كما جوّزوه في العتق، بلا خلاف.

 

نعم: ان المناسب فيما عدا القسم الاول، ان يستعمل كلمة «علي»‌ مقام «الباء» او ما يؤدي معناها من الاشتراط. و في القسم الاول، كلمة «الباء» الدالّة علي المعاوضة. كما في البيع و الخلع و نحوها.

 

لا يقال:‌ ان كلمة «علي» ليس من ادواة الشرط. بل [تسـ]تعمل في المعاوضة ايضاً. كما في قوله تعالي حكاية عن شعيب: «أُريدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى‏ أَنْ تَأْجُرَني‏ ثَمانِيَ حِجَجٍ»[30] اذ مرادنا من الشرط هنا ليس الشرط بمعني التعليق. بل بمعني الالتزام. و لاريب ان كلمة «علي» ظاهرة فيه و ان كان قد تستعمل في المعاوضة. مع ان في ارادتها من الاية ايضا تأملاً. مع ان بعضهم حكم ببطلان ما لو قالت «طلّقني علي انّ لك عليّ الفاً» فطلّقها. لانه طلاق بشرط، كما عن المبسوط.[31]

 

و الحاصل: ان معني «خالعتك بكذا» عاوضت بضعك بكذا. كما ان معني «بعتك بكذا» عاوضت هذا العين بهذا. و معني «وهبتك هذا» ملّكتك بلا عوض. فاذا قال «بكذا» و اراد معاوضة العينين، فهو تناقض، لو اريد بها المعني الحقيقي. و لا يمكن تصحيحه الاّ بارادة معاوضة العقد بشيئ، لا [معاوضة] العين. او [بـ]تبديل كلمة «الباء»، «علي»‌و ما في معناها. و بيع مجازي، لو اريد بها معاوضة العينين مجازاً. و اما «ملّكتك»؛ فهو قابل لارادة[32] المعاوضة بين العينين فيضمّ[33] اليه «بكذا». و للهبة؛ فيحمل عليها اذا تجرد. لاصالة عدم العوض.

و الظاهر انه لا ينبغي الاشكال في صحة ما عدا القسم الاول و السادس.

 

و وجه عدم تعرض الفقهاء لهذه الاقسام، انها ليست وظيفة كتاب الطلاق. بل يستفاد حكمها من قواعدهم المذكورة في ابواب العقود.

 

 

اما اندراجه في الهبة المعوضة؛ فلانهم لم يشترطوا فيها كون العوض شيئاً خاصاً. بل يظهر منهم باطلاق كلماتهم جواز كل شيئ من هبة اُخري، او عقد بيع، او نحوه، او فعل من الافعال كخياطة ثوب او صناعة خاتم. حتي ان الموجود في كلماتهم في باب الصدقة في مقام الاستدلال علي لزومها، بانّه هبة بعوض، [عُوّض] منها ما يتقرب الي الله. و ان كان لي فيه كلام. و ممّن صرح بالتعميم استناد المحقق طاب ثراه في بعض رسائله. و ما قد يوهم بعض عباراتهم من ان الهبة المشروطة بالعوض، ما يقابل الهبة هبة اُخري (حيث قالوا انه لابدّ من الايجاب و القبول في المشروط لانّهما بمنزلة هبتين) فهو ليس كذلك. لانه من باب المثال. فما ذكره في المسالك في شرح قول المحقق «فان اثاب لم يكن للواهب الرجوع» حيث قال: «مفهوم شرطه انّ له الرجوع مع عدم الاثابة، و الحكم فيه كذلك. حتي انه لو اراد الرجوع فبذل المتهب الثواب[34]، لم يجب عليه قبوله. بل يجوز له الامتناع ليتمكّن من الرجوع في هبته. لاصالة البرائة. و اطلاق النصوص الصحيحة بجوازها ما لم يثبت. و لا يتحقق الثواب الاّ مع قبوله، لا مع بذله خاصة. لانه بمنزلة هبة جديدة و لا يجب [عليه] قبولها»[35] انتهي.

 

 

كلامه(ره) ليس فيه دلالة علي ان عوض الهبة، هبة لا غير. و لا علي اشتراط عقد جديد مطلقا. بل مراده انه اذا امتنع الواهب عن الثواب و لم يقبله، يجوز له. لانه الي الان لم يحصل عقد معاوضة موجبة لانتقال ما اثبت الي الواهب حتي يلزم بالقبول لاجل لزوم الهبة. بل بذل الثواب بمنزلة‌ هبة جديدة يجوز عدم قبوله و ردّه. و الحاصل: ان مراده(ره) جواز الرّد و عدم القبول. لا لزوم القبول المسبوق بالايجاب المعتبر في العقود في تحقق الثواب. فيكفي اصل الشرط المذكور في ضمن الهبة الاُولي في ايجاب نقل الثواب. و كذا قبوله و عدم ردّه في قبول ايجابه. و ذلك لا ينافي اشتراط الايجاب و القبول اذا اشترط في ضمن العقد هبةً مستقلةً، او بيعاً، او غير ذلك. و لم تمتنع الواهب من القبول. فالثمرة يظهر فيما لو قال «وهبتك هذا الفرس و شرطت عليك ان تعطيني ثوباً» فاذا اعطاه و قبله الواهب و لم يردّه تحقق الثواب. اما لو قال «و شرطت عليك ان تعطيني الثوب[36] الفلاني، او تهبنيه، او تخالصنيه»[37] فيلزم الايجاب و القبول المعهودان[38] في العقود. و [يلزم] الاقباض في الهبة.



[1] الكافي، ج‏5، ص169، باب الشرط و الخيار في البيع … .

[2] و في النسخة: بينهم.

[3] و في النسخة: متعة.

[4] شرايع الاسلام، كتاب الخلع، ج3 ص41 ط دارالتفسير.

[5] و في النسخة: ان.

[6] السرائر، ج2 ص724 ط جامعة المدرسين.

[7] ايضاح الفوائد، اول مبحث الخلع، ج3 ص375 ط كوشانپور.

[8] و في النسخة: تمليك عين منجره مجردا عن العوض.

[9] كذا- و لعلّه: ان يوضع- او: ان تضع.

[10] و في النسخة: يفرقون.

[11] و في النسخة: و ان شاء.

[12] و في النسخة: اظهار التردّد.

[13] و في النسخة: المؤادة.

[14] كذا في النسخة، و لكنّ الصحيح: علي ان يهبه.

[15] قد اسلفنا في احدي المجلدات السابقه؛ انّ الامام الخميني(ره) اخذ النقاب عن صورة هذه المسئلة، و حقّقها حق تحقيقها، و اثبت ان هذا القول المعروف، مردود. فارجع. و ارجع المسئلة في باب الربا من «تحرير الوسيلة».

[16] و في النسخة: و انحصل.

[17] و في النسخة: و المميز دخول الماهيتين.

[18] و في النسخة: مع معاملة.

[19] و في النسخة: في غالب.

[20] الضمير راجع الي «توجيه» في قوله: و غاية توجيه هذا الكلام.

[21] و في النسخة: ملكاً.- انظر المفردات، كتاب الواو، وهب.

[22] و في النسخة: احد العبد من المدعي بهما.

[23] و في النسخة: و اما ما نحن فيه فتصح الصلح.

[24] و في النسخة: و هو.

[25] يفرّق المصنف(ره) بين «الطلاق بعوض» و بين «الطلاق علي عوض». فلا تغفل.

[26] يفرّق المصنف(ره) بين «الطلاق بعوض» و بين «الطلاق علي عوض». فلا تغفل.

[27] و في النسخة: اما الكلام.

[28] و في النسخة: او عن فقد المعارضة.

[29] و في النسخة: و ثانيهما.

[30] آية 27، سورة قصص.

[31] اي: كما نُقل عن المبسوط- و لكنّي ما وجدت في المبسوط عبارةً تدلّ علي ذلك، الاّ في الشرط بمعني التعليق.

[32] و في النسخة: الارادة.

[33] و في النسخة: اليهم.

[34] قال في المسالك: اي التعويض.

[35] المسالك، ج1 ص298 ط دارالهدي.

[36] و في النسخة: الثواب.

[37] و لعلّه «تصالحنيه».

[38] و في النسخة: و المعهودان.