كتاب الطلاق: مسائل الطلاق من المجلد الثالث (3)

و بالجملة: المدعي من يدعي خلاف مقتضي ما هو حجة شرعية، ما لم يثبت لها مزيل، او مخصّص، او قاطع. سواء كانت اصلا او ظاهراً.

و اما انّ الحجة في كل موضع (مع قطع النظر عن الدعوي) ايّ شيئ؟ فلبيانه[1] محلّ و يؤل الكلام في بيانه الي بيان ترجيح الاصل و الظاهر في مقام التعارض، و يختلف الكلام بسبب في الدعوي في مثل اسلام الزوجين. و التحقيق تقديم مدع التقارن، لاصالة بقاء النكاح. و اصالة عدم التاخر[2]. و عدم الدليل علي تقديم هذا الظهور علي الاصل و الاستصحاب و قاعدة اليقين. مع انّ دعوي ندرة وقوع التقارن ليست بظاهرة بحيث يلحق بالنادر الذي كالمعدوم. فانا نشاهد ان المسلين في العالم خارجون عن الاحصاء، في[3] وقت صلوة الصبح من طلوع الفجر الي قبل طلوع الشمس (و هو زمان قليل) فهل يحكم بانّ المسلمين متعاقبون في تكبيرة الاحرام بحيث يكون المتقاربين فيها قليلاً[4] نادراً؟ و لا فرق في ندرة تفاوت الحوادث في الوجود، بين ما كانت متناسبة (كاسلام الزوجين)، او غير متناسبة؛ كاكل زيد و شرب عمرو و اسلام بكر.

 

نعم: يمكن ان يقال: ضبط المقارنة نادر و الغالب فيه الغفلة. ففرض ان يضبط الزوجة اخر تكلّم الزوج بكلمة الشهاده، [ا]و تاخر حرف اخرها من احدهما، نادر. و هذا ايضا غير مضرّ. اذا المعتبر في المقام نفس التقارن، لا العلم به. و كون العالم به نادراً، لا يستلزم ندرة وقوعه، حتي يدعي عليه التعاقب. و كيف كان فالاقوي فيه تقديم مدعي التقارن.

 

و اما: ما ذكره اخيراً‌ في معني المطالبة و اخراج مسئلة دعوي تقارن الاسلام و تعاقبه عما نحن فيه؛‌ فجوابه ان البحث فيما لو ادعيا الانفساخ و عدمه متمسكا بالتقارن و التعاقب،‌ لا في نفس التقارن و التعاقب لا غير،‌ فيمكن الادراج تحت قاعدة الاصل و الظاهر باعتبار اعتضاد الدعوي باحدهما. كما انّ في صورة‌ عدم الدعوي اصلاً، يرجع الي ترجيح ايّ الامارتين من التقارن و التعاقب، ليجعل دليلاً في حكم الميراث. و لا منافاة بين جعل الامارة دليلاً‌ او اعتضاداً في صدق البناء عليهما.

 

و علي هذا فمراد من عرّف المدعي بانه «من يدعي خلاف الظاهر»،‌ لا يصحّ ان يكون «من يدعي خلاف الظاهر المقابل للاصل»، لانه تُناقِضُ عكسه بما كان خلاف الاصل، و ان لم يكن دعوي خصمه اظهر منه. مثل ان يطالبه شيئاً في ذمته، فقال نعم و لكن اديته. فالتّادية[5] لسيت بخلاف الظاهر المقابل للاصل، مع انه مدع. فلابدّ ان يحمل كلامه علي انّ مراده من الظاهر ما هو ظاهر الحجّية[6] شرعاً، سواء كان اصلاً او ظاهراً. فانّ الظاهر حجية الاصل و ان كان مقتضاه خفياً.

 

و بالجملة مراده انه اذا كان كلام خصمه مطابقا لحجة شرعية ظاهر الحجية[7]، التي يجب عليه العمل ظاهراً. فمدعي خلافه، مدع، يحتاج الي الاثبات. لانّ خصمه متمسك بدليل شرعي ظاهري. فهذا القول اجمال لتفصيل القول الاول. فيُبني الكلام (فيما لم يكن دليل علي ترجيح شيئ منهما) علي مسئلة‌ تقديم الاصل و الظاهر كما مرّ.

و اما: من فسّره بانّه «من يدّعي خلاف الاصل»، فينتقض عكسه بمن يدعي عيناً في يد غيره مع ثبوت سبق ملكه. فانّه موافق للاصل. الاّ ان يقال ان الاصل برائة ذمة المدعي عليه عن وجوب ردّ العين اليه، و هو مشكل، لتقدم الاصل الاول. الاّ ان يمنع ذلك القائل كونه مدعيا حينئذ.

 

و يمكن ان يوجَّه كلامه كالتفسير السابق؛ بان مراده من الاصل، الدليل. كما هو احد معانيه. ففي بعض المواضع، الدليل هو الاصل المقابل للظاهر المعلوم الحجية. و في بعضها، الظاهر المقابل للاصل المعلوم الحجية. و فيما لم يكن دليل لاحدهما[8]، فيرجع الي تقديم الاصل و الظاهر. كما مرّ.

 

ثمّ: انّا الي هنا جرينا في مسئلة الاصل و الظاهر، علي ما هو الظاهر من كلام الجماعة من «عدم الفرق بين حصول الظن للمكلف مطلقا، او الحاكم، و بين الظواهر المعلوم الحجية، و بين صورة‌ حصول الدعوي و عدمه». و لكنّ التحقيق في المقام انّ‌ كلماتهم هنا غير منقّحة. و ما ذكره في تمهيد القواعد، لا يخل من خلط و نحن[9] استقصينا الكلام في القوانين في توجيهه و توفيق كلماته. و ذلك انّ بناء الكلام ثمّة كان في بيان كلمات الاصحاب و اقوالهم. و انّ الظاهر منهم عدم الاكتفاء بالظن المنصوص عليه حجيّته. و لا نطيل الكلام بذكر مواضع الخلط[10].

 

و لا بدّ هنا من الفرق بين الظاهر و الظن. و ان لم ينفكّ‌ الاول عن الاخر. و من الفرق بين صورة الدعوي، و غيره. فنقول: انّ هيهنا مقامات:

 

الاول: انه لا يجوز نقض اليقين بالظن، الا ما كان حجيّته شرعية، و في الحقيقة هو ايضا يقين. فمقتضي الاصل و الاستصحاب لابد ان يبقي علي حاله الي ان يحصل الظن الذي هو حجة بخلافه. و لا فرق في ذلك بين الطهارات و النجاسات، و غيره. و هذا المقام انّما هو لمعرفة المكلّف الحال، مع قطع النظر عن حصول دعوي. فعلي هذا لا معني للحكم بنجاسة الغسالة و طين الطريق بسبب ظن ملاقات النجاسة‌ في حال قلّة الماء و عدم وجود كرّ متصل في البين لم يتغيّر بالنجاسة‌. و بسبب ظن ملاقاتها لطين الطريق. فمثل جواز العمل بالظن في الوقت مع المانع، او القبلة، او غير ذلك، فهو بدليل شرعي. كالشك بين الثلاث و الاربع في الصلوة. و كالظن بالاتيان بجزء من اجزاء الصلوة. مع ان الاصل عدم الزايد.

 

فان كان ترجيح نجاسة‌ الغسالة وطين الطريق لدليل (كالوقت و القبلة) فالمعتمد هو الدليل، لا الظن. و الاّ، فلا، للاقتحام في الحكم بلا دليل. سيمّا مع وجود الدليل الخاص ايضاً في خلافه، كما في الغسالة. و الدليل الذي يخرج به عن مقتضي الاصل؛ اما نصّ، او اجماع، او بينّة، او يد، او انقضاء المعاملة و استمرار الطرفين علي هذه الحالة فان ظاهر حال المسلم بل مطلق المكلّف، صحة ما فعل، فيحكم في ظاهر الحال بعدم نقص في الثمن او المثمن. و بعدم لزوم نفقة‌ علي الزوج بعد اصطحاب الزوجين في منزل. بدون كلام. و يظهر الثمرة في العلم بالحال للمكلّف.

 

و هذا كلّه في اصل معرفة المكلّف ظاهر الحكم و عدم مزاحمته لحالهما، كما لو وقع هذه الامور و ماتا و لم يحصل تداع.

 

امّا المقام الثاني: و هو صورة[11] الدعوي؛ فلو حصل الدعوي فقال احدهما موافقا للاصل الذي لم يلحقه ظاهر معلوم الحجية، [او قال موافقاً لـ] الظاهر المعلوم الحجية، فهو مدعي عليه. و الاخر مدع. لما بيّنا ان المدعي من تكون اِخباره اضعف. و ضعفه من جهة كونه مخالفاً للاصل، و للظاهر المذكور. فحينئذ نقول لا يُسمع قول المدعي الاّ اذا كان معه دليل يقيني او ظني معلوم الحجية؛ كالبيّنة او اليمين المردودة. و لا يلتفت الي قول المدعي عليه بمجرّده (و ان كان قاعدة اليقين و الاستصحاب مقتضيا لكلامه لكونه موافقا للاصل) بل يحتاج الي اليمين. [و] هذا[12] لاختلاف الحال في صورة الدعوي و غيره.

المقام الثالث: انّه لا بدّ من الفرق بين «غلبة‌ الظن» و «الظن الحاصل من الظن، او العادة، او السند». فانّ غلبة الظن لا يعتمد عليه في مقابل الاصل، لعدم حجيّته. و ما ذكره[13] بعضهم من تقديم قول الزوجة بتعاقب الاسلام ليس بشيئ. لانّ الاصل عدم انفساخ النكاح، و كون التعاقب مظنونا لا يلتفت اليه. لانّ غاية كون ذلك من باب غلبة الظن الحاصل من الغلبة، كما بينّاه سابقا.

و اما: لزوم التغسيل للميت المجهول الحال في بلاد الاسلام[14]، و استحباب التسليم علي مجهول الحال و وجوب الردّ عليه في بلاده؛ فهو اما مستفاد من سيرة الشارع النازلة منزلة الاجماع في الاعصار المتمادية الي زمان الشارع. او لاجل فعل المسلمين علي وفق بناء الشارع من حمل الكفار علي تحمل العلامة ليمتازوا عن المسلمين[15]. و يحمل الفاقد للعلامة، علي انه مسلم. و الاّ‌ لزم مسامحة المسلمين في بنائهم. او لاجل ما دلّ علي اعتبار الظن الحاصل من الغلبة، كما يعتبر في الجلود و اللحوم في بلاد المسلمين و اسواقهم مع وجود غيرهم فيها.

و قد نصّ عليه في موثقة اسحق بن عمار، عن عبدالصالح(ع) انه «قال: لا بأس بالصلوة في فرّاء اليماني و فيما صنع في ارض الاسلام. قلت: فان كان فيها غير اهل الاسلام. قال: اذا كان الغالب عليها المسلمون، فلا باس»[16]. و كذلك ما روي في مسئلة تداعي الزوجين و اعطاء المرئة ما تعارف في البلد انّها تاتي به من بيت ابيها، بان من بين الجبلين يعرف انّ المرئة تاتي بفلان و فلان[17].

 

اذا تمهّد هذا، فنرجع[18] الي مسئلة المسؤل منها؛ و نقول: انّ زوجية عمرو لهذه الزوجة محكومة بانقطاعها في ظاهر الشرع، بعد ما تزوجها زيد، و لا يتزاحم زيد في امرها ما لم يوجد هناك مدع. فهذا ظاهر يقطع به الاصل السابق، لحمل فعل زيد و الزوجة علي الصحة. و بعد ما حصل الدعوي من عمرو، فهو مدع لبطلان امر صحيح في ظاهر الشرع. فلا يحكم بمجرّد دعواه ببطلان العقد. فانّ ثبوت الزوجية في العام السابق لا يوجب بمجرد استصحابه بطلان اليد الحالية. فمادام زيد متمسكاً بحقية اليد علي البضع، لا تسلّط عليه الاّ‌ مع اقامة عمرو البينة‌ علي بطلان نكاحه و بقائها علي زوجية‌ السابقه.

 

و لما اعتراف زيد بانّها كانت زوجة عمرو و لكنّه وكلّه في طلاقها و تزوج بها، فاقراره اوجب قبول زوجيّتها له الي حين التطليق الذي يدعي انه وكّله فيه. و هو ينكر التوكيل. و ليس له حينئذ الاّ‌ دعوي التوكيل في طلاق و تطليقه ايّاها وكالةً عنه. اذ لا مانع من كون لفظ واحد مركبا من الاقرار و الدعوي. فان زيد و ان لم يقرّ بزوجية عمرو علي حدة و لكن قال «انت وكّلتني في تطليقها و طلّقتها و تزوّجت بها». فهو يدل بالالتزام علي الاقرار بزوجية عمرو حين التوكيل و حين الطلاق، و بالمطابقة‌ علي دعوي التوكيل و التطليق. فهذه دعوي مخالفة للاصل. و الظاهر الذي كان متمسّكه في ظاهر الشرع قد ظهر ابتنائه علي هذه الدعوي، باقراره. فلا يمكن له التمسك به. فحينئذ فلا يُقبل منه الدعوي، الاّ بالبينة. فانه انقلب امره و صار الان مدعيا. مثل من ادعي علي احد شيئا في ذمّة، و قال نعم و لكن اديته.

و حينئذ فغلبة الظن بصدق زيد في التوكيل و التطليق، لا ينفع في شيئ. كما لو حصل الظن بصدق مدع ردّ ما يدعيه المدعي في ذمّته بعد اعترافه باشتغال الذمّته. سواء‌ كان حصول الظن بصدقه من جهة صلاحه و عدالته و تقويه، او من القرائن الخارجة كتمادي مفارقة‌ الزوجة عن عمرو و مفارقته ايّاها[19]ساكتاً عليها، ثم تزوجها بزوج، و كونها معه مدّة مديدة مع اطلاع عمرو و سكوته عنه و ساير القرائن التي اشير اليها في السؤال فيما نحن فيه. فهذه القرائن و ان كانت توجب اِخباره بالزوجية‌ مطابقا للظاهر المعتبر شرعاً ما لم يخالفه قاطع. و لكن بعد اقراره بزوجية‌ عمرو حين التوكيل و التطليق، فجاء بقاطع يزول معه حكم هذا الظاهر و هو اقراره المتضمن لكون هذا الظاهر مبتنياً‌ علي دعوي لم يثبت حقيقتها، و لا يلتفت اليها الاّ ببيّنة ‌مثبتة. و هو ظاهر. و لا ينفع القرينة‌ الدالّة‌ علي الصدق، لمن اطلع عليها من دون ان يكون امر يحسن به الظن للعامة. اذ بيّنّا سابقا ان اطلاق المدعي و المدعي عليه، تابع لفهم العرف المبتني علي الاطراد و الكلية. فالمدعي من يكون قوله اضعف في نظر العامة. لان المدعي عند كل احد من يُظن خفاء قوله. و المدعي عليه من يُظن صدق قوله.

 

ثم: انه بعد ما عرفنا انه بسبب اقراره بان سبب زوجيّته هو تطليقه الناشي عن توكيله الذي ينكره، فالمفروض انّ الاقرار من [الـ]ادلة الشرعية ‌المقطوع بها، فمحض اقراره يُثبت[20] زوجية عمرو لها في زمان يدعي طلاقها بتوكيله. و هو مستصحب و لا يرفع الاّ‌ بحجة شرعية. فيصدق علي زيد حينئذ بانه يُترك لو ترك، يعني اذا بقي علي حالة‌ الحاصلة من اقراره الموجبة‌ لانفساخ نكاحه، يُترك و يخلّي عنه. فلو عاد؛ فاما يجب عليه البيّنة او اليمين المردودة لو ردّها عمرو اليه.

و الحاصل: ان زيداً في صورة‌ السؤال مدع و عليه البيّنة، و مع العجز فيتوجه اليمين الي عمرو، فاذا حلف بطل زوجية زيد[21].



[1] و في النسخة: فبيانه محل و ياول… .

[2] كذا. و لعل في العبارة سقط: اي ليس هنا محل اصالة‌ تاخر الحادث لان كل من الدعويين حادث.

[3] و في النسخة: و.

[4] و في النسخة: دليلاً.

[5] و في النسخة: فلتادية.

[6] و في النسخة: الحجة.

[7] و في النسخة: الحجة.

[8] و في النسخة: احدها.

[9] و في النسخة: ان.

[10] و في النسخة: الخلة.

[11] و في النسخة: الصورة.

[12] و في النسخة: هذا خ، ل، فقد اختلف الحال.

[13] و في النسخة: ذكروه.

[14] و في النسخة: الاسلم.

[15] و في النسخة: علي المسلمين.

[16] الوسائل، كتاب الصلاة، ابواب لباس المصلّي، ب55 ح3.

[17] الوسائل، لعل مراده(ره) ح5 من الباب8، ابواب ميراث الازواج.

[18] و في النسخة: فرجع.

[19] و في النسخة: و مفارقتها اياه ساكتا عليها.

[20] و في النسخة: ثبت.

[21] الي هنا تم كلامه قدس سرّه، في مسئلتنا المبحوث عنها، و ما ياتي من كلامه الي آخره؛ فهو اما فرضٌ‌ مستقلٌ لا مدخلية‌ له في المبحث و اما فرع يتفرع علي مبناه و فتواه.

فنقول: بعد الشكر من سعيه الناشئ من سخاوته العلمية، الهادي للافكار و المبرز للدقائق و الظرائف. كيف لا،‌ و هو الميرزا القمي صاحب القوانين المشحون برموز التحقيق، كالنجم الثاقب في سماء الدليل و الاستدلال. و قد استفدنا (و كذا يستفيد كل من ادقّ النظر في كلامه) فوائد جمّاً لا يوجد في ساير المتون الاصولية و الفقهية. فجزاه الله خيرا.

لكنّا معاشر الطلبة تعلّمنا منه(ره) و من امثاله، ان حرّية الباحث من الضروريات الاولية، و البحث عرصة «ان قلت، قلت». فاليك ايها القارء الكريم:

لابدّ في توضيح المقال، التوجه الي «عنصر الزمان» في مسئلتنا و لذلك نفرض مسئلة لا مدخلية فيها الزمان و نقول:

مسئلة: امرئة يأسة في بيت زيد اليوم و يده علي بضعه. و كانت في صبح الامس زوجة عمرو. فجاء عمرو اليوم و قال «هذه زوجتي» و قال زيد «لقد وكّلتني امس في تطليقها ثم تزوجت بها». مَن المدعي و مَن المدعي عليه، في هذه المسئلة.

فمعلوم انّ قول زيد خلاف الاصل (اي: اصالة عدم التوكيل). و ان كان الظاهر (اي يده علي البضع) معه. لانّ‌ هنا، الاصل مقدم علي الظاهر.

فزيد مدع و عمرو مدعي عليه.

فهلاّ فرق بين هذه المسئلة و بين مسئلتنا المبحوث عنها؟!

و ها اليك الفروق:

1- المرئة فيما نحن فيه غير يائسة، و يحتاج ازدواجها المجدد، بتمام عدتها التي لا تحقّق الا بزمان طويل.

2- ثمّ تزوج زيد بها. و عمرو ساكت حتي حملت حملاً. و هذا زمان اخر.

3- ثم عمرو سكت حتي عُلم ان المرئة حاملة‌ من زيد.

فلماذا ياتي و يصير حكم المسئلتان حكماً‌ واحداً؟!

   نعم: قد يوجد في مورد، او موارد، يتّحد حكم المسئلتين و ان كان بين موضوعها فرقا او فروقا. لكن ما نحن فيه ليس منها. لانّ في ذلك الزمان الطويل حصل امور كلها في نفسه دليل، و مسئله اليائسة المذكورة خالية عنها. فاليك الادلة:

1- سكوت عمرو في هذا الزمان الطويل، يصير دليلاً علي نفسه، لوجود الزمان الطويل. و يقضي بهذا، العرف. فاسئل العرف. و محور بحثنا هو الموضوع و الموضوعات منحصر في فهم العرف، لا فهمنا من الادلّة الاصولية او الشرعية. كما اعترف به المصنف(ره) غير مرّة.

2- امضاء المجتمع (التي حدثت هذه المسئله بينهم) و بنائهم علي ان المرئة و زيداً زوجان لهما ولد. و علي هذا البناء، ابتنوا معاملاتهم، و مراجعاتهم و اعمالهم مع المرئة و زيد. و عمرو ساكت و لا يعترض لذلك الامضاء.

3- وجود الولد و حيثيته؛ من كونه ولد مشروع او ولد زنا؟-؟ و الاصل مشروعيته.

و للمصنف(ره) و لمن يسير مسيره، ان يُثبت اولاً عدم الفرق بين المسئلتين (اي مسئلة اليائسة و ما نحن فيه). و لا اقل ان يثبت كون المورد من الموارد التي لا تاثير فيها فرق الموضوعين و فروقها. و دونه خرط القتاد. هذا اولاً.

و بالثاني: لاحظ كلامه(ره) من اوله الي اخره، ثم ارجع و لاحظ مجدداً،‌ تجد ان ملخّص كلامه الطويل (لكن المفيد) و مئاله الي امر واحد بسيط لا يحتاج لهذه الابحاث و التنظيرات التي تنجرّ احيانا الي القياس.

و الامر الواحد البسيط، هذا: هل قاطع قطع الاصل، ام قاطع قطع الظاهر؟-؟

هل الاصل منقطع او الظاهر؟-؟

فنقول: في مسئلة اليائسة المذكورة، الظاهر (يد زيد) منقطع باقراره الضمني بانّ المرئة كانت زوجة عمرو. فيبقي «اصالة عدم التوكيل» سالما و يحكم بان زيد مدع و عليه ان يثبت ادعائه.

و اما في مسئلتنا، المنقطع هو الاصل، لحدوث ادلّة متعددة كل منها دليل قاطع بنفسه. فاصالة عدم التوكيل فاتت و ماتت بازمنة قبل يوم الدعوي. لانّ هنا ظواهر، لا ظاهر واحد فقط.

1- يد زيد و استمراره علي المرئة، ظاهر لا يقاومه الاصل هنا. و الاصل دليل حيث لا دليل. و الظاهر دليل ما لم يعارضه دليل اخر اقوي منه. و هذه هي النكتة التي لم اذعن النظر(ره) فيها.

2- سكوت عمرو، ظاهر اخر.

3- و ايضاً طول سكوته في زمان طويل، ظاهر ثالث.

4- امضاء المجتمع في معاملتهم مع زيد، و مع المرئة، و مع عمرو في هذا الامر، ظاهر رابع.

5- و امضاء عمرو نفسه امضاءً عمليا كامضائهم.

   بل هناك ادلة علي انقطاع الاصل، من غير سنخ الظهور و الظاهر. بل كلّ منها دليل قطعي عند العقل و الشرع. من جملته:

1- تقرير عمرو عملاً‌ صحة ازدواج المرئة و زيد.

2- اقراره الضمني بالفعل و العمل. و المصنف قدس سرّه يعطي لاقرار زيد الضمني، قوةً و يقطّع به الظاهر الذي لزيد و هو يده. فلماذا لا يعطي باقرار عمرو الضمني العملي مدي زمان طويل الذي كل يوم منه، بل كل ساعة منه، بل كل دقيقة و ثانية منه اقرار علي صحة‌ التوكيل و علي انّ الزوجة زوجة زيد.

نعم هذا اقرار (بل اقرارات) بالعمل، و ذاك اقرار باللفظ. لكنّ هنا ليس من موارد قاعده «انّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» حتي يحكم بترجيح اقرار زيد بعنوان الاقرار، و لا يكونَ اقرار عمرو اقراراً. بل الاقرار العملي هنا اقوي من الاقرار اللفظي. لانّ كلاهما ضمنيّ.

بل كذا في كل الموارد حتي الموارد المالية و الحقوقية؛ كما اذا كان مال في يد بكر طيلة زمان و كان سابقاً مال خالد. اليوم يقول خالد «المال مالي» و يقول بكر «نعم و لكن بعته منّي». فَمَن المدعي؟

فان هنا مضافاً علي ان الظاهر (و هو اليد) مع بكر، له ظاهر اخر. لانّ العرف يقضي بانّ العاقل لا يترك ما له زمانا طويلا في يد غيره. الاّ ان يدعي خالد اعطاء منافع المال  لبكر طول الزمان المذكور. فيصير مدعيا و بكر مدعي عليه. لان علي خالد ان يثبت الاعطاء. و ليس الزوجية فيما نحن فيه اعطائيا حتي يدعي عمرو، و ان ادعي، فله اثباته بعد ان عُزّر لفعاله المحرّم. 

نعم: لو كان دعوي بكر و خالد في المسئلة المذكورة بحيث لا يكون هناك مضيّ زمان طويل، فبكر مدع و عليه ان يثبت البيع. لانّه اقرّ‌ بكون المال، مال خالد سابقا. اي سابقا علي الدعوي. لا سابقا قبل سنة او سنوات.

و المصنف قدس سرّه كررّ تنظير ما نحن فيه بمسئلة «بكر و خالد» المذكورة، بصورة‌ مطلقة، و يحكم حكما مطلقاً. و لا يفصّل بين السابق علي الدعوي. و بين «السابق سنة او سنوات». و لذا لا يظهر صورة‌ الحقيقة. و الحال انّ التنظير يصح بين خاص مع خاص، لا بين خاص و عام. و كذا لا يصح بين مطلق و مقيد.

و اكثر تنظيراته(ره) من هذا القبيل.

و ايضا:‌ مبناه و فتويه(ره) مطلق (كما هو عام ايضا)؛ لا يشمل بمسئلة زيد و زوجية التي مضي عليها زمان طول سنة واحدة فقط. بل يشمل كل ما مضي عليها الزمان و ان كان عشر سنوات بل ازيد. و وُلد اولاد متعددون في طيلة ذلك الزمان. كما اشرنا اليه في التعليقة السابقه.

و بالجملة: الاصل (اي اصالة عدم التوكيل) منقطع بالادلة القطعية و الظواهر العرفية المسلّمة، و الادلة و الظواهر باقيات سالمة. و القاضي هنا (كما اعترف المصنف قدس سره) هو العرف. فليراجع المُراجع.

   و ما ذكر في هذه السطور الاخيرة، من فهم العامة، و اطلاق العامة المدعي… و هكذا.. فكلّها عليه، لا له. كما اشرنا اليها في التعليقه السابقه ايضا.

ثم: انه(ره) قد يفتي و يحكم في بعض الدعاوي، حكماً‌ لا ينقطع به الدعوي، بل يتولد من الدعوي الواحدة، دعاوي متعددة اُخري. (لاحظ بقية‌ كلامه في المسئلة) و الحال انّ وظيفة الفقه و التفقه، قطع الدعوي و فيصلتها. بل هذا حكمة الشرع و التشريع.

و اما تسميته(ره) هذه الادلة القطعيه العقلية و الظواهر البارزة، باسم «القرينة»، فهو عجيب منه قدس سره. و اعجب منه توصيفها بصفة «الجزئية».

و اما قوله انّ هذه القرائن مبنية علي التوكيل و التوكيل لم يثبت. و هذا ايضاً عليه، لا له. لان الادلة ‌و الظواهر لو كانت غير مبنية علي التوكيل، لما كانت مثبتة للتوكيل، و قاطعة للاصل. الغرفة المرفوعة تدلّ علي ان تحتها بيت و جدار.

نعم: لو قال(ره) انّها متفرعة علي التوكيل و ينكر عمرو التوكيل، لكان لقوله محلاً. لكن ليس هنا مصداق «الاصل و الفرع». بل مصداق «البناء و المبتني عليها». علي انه لو سلّمنا انّ ما نحن فيه مصداق الاصل و الفرع، فربما فرع اذا ثبت وجوده، ثبت به الاصل، اذا كان الاصل مشكوكا. كما اذا ثبت فروع السّرقة، يثبت بها اصل السّرقة.

و اما قوله قدس سره: «فيصدق علي زيد حينئذ بانّه يُترك لو ترك…»، فهذه اعجوبة صدرت منه(ره) لا تُناسب اللغة و لا العرف و لا العقل و العقلاء. و تُضادّ القواعد حيث يصدق حينئذ بكل «مدعي عليه» انه يُترك لو تَرك. فيصير كل «مدعي عليه» مدعياً. لانّ «المتروك» هو نفس الدعوي، لا مورد الدعوي (كما صرّح في موارد من كلامه) و مع ذلك كررّ انّ زيداً لو تَرك مورد الدعوي، تُرك. و علي هذا معلوم ان كل من هو «مدعي عليه» لو ترك مورد الدعوي و سلّمه للمدعي، تُرك. اذاً ينقلب كل «مدعي عليه» في العالم- في كل زمان و مكان- «مدعياً». و ينقلب كل «مدع» و يصير «مدعي عليه»، كما مرّ البيان فيه في التعليقة السابقه في اواسط بحثه(ره) عن هذه المسئلة. فارجع.